التعاطف مع الذات يزيد من قدرتها على التحمُّل
ينطوي التعاطف مع الذات، المستوحى من الممارسات البوذية، على معاملة النفس بالقدر ذاته من اللطف والتفَهُّم الذي يمنحه الصديق لصديقه.
وُجِدَ أن هذه الصفة تزيد من الحافز المطلوب لمواصلة أداء مهمة ما بعد التعرُّض للفشل، كما يبدو أنها تحسِّن من القدرة على التحمُّل عند التعرُّض لتحديات أو لأحداث مؤلمة.
يمكن للأشخاص عن طريق رعايتهم لأنفسهم أن يصبحوا أكثر حضورًا في علاقاتهم الإنسانية، وأن يشعروا بمزيد من التعاطف تجاه الآخرين.
قبل عامين، مرت ميشيل راب -خريجة جامعة كورنيل ذات الثمانية والعشرين ربيعًا وقتئذٍ- بسلسلة من الأحداث المؤسفة، التي بدأت بفقدانها وظيفتها خلال عملية تسريح جماعي من شركة ناشئة في سان فرانسيسكو. ولحرصها على العمل مرة أخرى، قَبِلَت بوظيفة مُجهِدة بدنيًّا في مقهى بمدينة تشاينا تاون، لكنها أصيبت بخلع في مفصل الوِرك بعد استلامها عملها بأسابيع، بينما كانت تحمل صناديق تصعد بها سلم المتجر.
وإذ أصبحت راب غير قادرة على السير والذهاب لإجراء مقابلات للحصول على وظيفة، كما شعرت بالإجهاد والإحباط، فقد شغلت نفسها بلعبة ورق تنافسية تتطلب جهدًا ذهنيًّا شديدًا وتسمى "ماجيك: ذا جاذرينج" Magic: The Gathering. إلا أنه حتى محاولة الانشغال هذه أشعرتها بالتعب. فانغامسها التام في اللعبة، بمشاركتها في مسابقات وإنشائها لفرع محلي، لم يكن سوى آخر فعل تفعله ضمن نمط اعتادت أن تنتهجه طوال حياتها، يتمثل في وضع أهداف طموحة ثم تأنيب نفسها بشدة لإخفاقها في تحقيق هذه الأهداف.
وعندما وجدت أن الهزائم تتوالى عليها الواحدة تلو الأخرى، لم تستطع التوقُّف عن جلد الذات. تقول راب: "عندما أنظر إلى الماضي، يبدو الأمر جنونيًّا". وتضيف: "بالطبع أنا لاعبة جيدة، لكني لم أستطع مسامحة نفسي على فشلي".
تعتقد راب أن هذا السلوك المُدَمِّر للنفس ينبع من التنشئة وسط ضغط شديد مارسه الوالدان للدفع نحو التفوق، الذي كثيرًا ما كان –على حد قولها– يظهر على هيئة إساءة عاطفية وجسدية. خلال الأعوام الأخيرة خضعت راب لعلاج للقلق والاكتئاب، لكن في حالتها، لم يكن العلاج هو ما جعلها تتخلص من نمط انهزام النفس. بتحدُّثها مع زوجها عن مشكلاتها تذكَّرت راب كتابًا كانت قد قرأته من قبل، حول التواصل الخالي من العنف الذي يشدد على أهمية التحدُّث مع إبداء التعاطف، بما في ذلك التعاطف مع الذات. وكانت هذه هي اللحظة التي أدركت فيها كثيرًا من الأمور.
التعاطف مع الذات، في أبسط صوره، يعني أن تعامل نفسك بالقدر نفسه من اللطف والتفهم الذي قد تتعامل به مع صديق لك. وتشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يجدون صعوبة في تطبيق ذلك لا يفتقرون بالضرورة إلى التعاطف مع الآخرين، بل يضعون لأنفسهم معايير أعلى من تلك التي يتوقعونها من غيرهم. إن تطوير تعاطف مع الذات يسمح لهؤلاء الأشخاص بالتعرف على مشاعرهم الخاصة وتقبلها، بدلًا من تحدي أنفسهم بصفة مستمرة "لتحقيق الأفضل".
تُعَد راب واحدة من مجموعة متنامية من الأشخاص، الذين يكتشفون أن التعاطف مع الذات يمكن أن يكون بديلًا فعالًا بشكل مدهش لعادة نقد الذات الشائعة المصحوبة بالشعور بالعار والمسببة للإحباط. منذ ولادة مفهوم "التعاطف مع الذات" كمبدأ علمي –مع نشر ورقة بحثية مهمة من قِبَل عالِمة النفس كريستين دي. نيف، من جامعة تكساس في أوستن، عام 2003- تضاعفت أعداد المنشورات الأكاديمية التي تبحث في هذا الموضوع.
خلال الأعوام القليلة الماضية، أصبح مفهوم التعاطف مع الذات سائدًا، إذ قام بعض الباحثين والمتخصصين المهتمين به –بما فيهم نيف- بكتابة الكتب وتنظيم ورش العمل لنشره. أعداد مدربي الحياة، ومعلمي الوعي الذهني، والمعالجين النفسيين الذين يروجون الآن لفوائد التعاطف مع الذات، لا تُحصى. المعالجون النفسانيون يعُدُّون التعاطف مع الذات مكونًا طبيعيًّا للعلاجات التي خضعت للدراسة الجيدة، والتي تركز على تقبُّل الأفكار أو الأنماط السلوكية غير المفيدة، وتغييرها تدريجيًّا، ومنها العلاج الإدراكي السلوكي، والعلاج القائم على القبول والالتزام.
ومع ذلك، فإن كثيرًا من الناس يقاومون الفكرة، فهم قلقون من أن تحوِّلهم إلى أشخاص أنانيين، أو هوائيين، أو ضعفاء. فإذا ترفقنا بأنفسنا بعد التعرُّض لإخفاق ما، هل يا ترى سنصبح ضعفاء ومتهاونين؟ هذا السؤال هو واحد من عدة أسئلة حاولت أبحاث التعاطف مع الذات الإجابة عنها، وأجابت النتائج بـ"كلا". فكما تُظهر الأدلة المتزايدة، عادةً ما يكون التعاطف مع الذات مصدرَ قوة للشخص ولعلاقاته مع الآخرين، إذ يجعل الأفراد المتعاطفين مع ذاتهم يتمتعون بقدر أكبر من الاستقرار العاطفي، ويصبحون أكثر تحمسًا للتحسين من أنفسهم، وبشكل عام أفضل في التعامل.
جذور بوذية
بدأت نيف -رائدة الدراسات العلمية حول التعاطف مع الذات- الاهتمام بهذا الموضوع في التسعينيات. إذ كانت حينها مرشحة لنيل درجة الدكتوراة، بالتزامن مع حدث انتهاء زواجها الأول، فقد كانت تشعر بالعار الشديد والكراهية لذاتها. فبدأت حضور دروس لممارسة التأمل، واكتشاف الفكر البوذي.
علمت نيف أن التعاطف يتطلب الاهتمام بألم شخص آخر، والرغبة في تخفيف معاناته، لكنها لم تفكر قَطُّ في توجيه هذه الطاقة نحو نفسها، حتى قرأت كتابًا للمعلم البوذي شارون سالزبرج بعنوان "لوفينج كايندنس" Lovingkindness. أثرت فيها الرسالة التي حملها الكتاب بشدة، وهي أن معاملة النفس بلطف أمر مهم من أجل الشعور بحب صادق تجاه الآخرين. وسريعًا ما بدأت في إرساء الأسس اللازمة لدراسة التعاطف مع الذات بصبغة علمية. ومن قراءتها، اكتشفت نيف ثلاثة عناصر لا غنى عنها تُشَكل التعاطف مع الذات، وهي: معاملة النفس بلطف في الأوقات العصيبة، واهتمامك بمعاناتك بطريقة واعية وخالية من الهوس، والإنسانية المشتركة، أو بعبارة أخرى أن تدرك أن معاناتك هي جزء من الحياة البشرية، وليست مقتصرة عليك وحدك. هذه المكونات الثلاثة (مع متناقضاتها) أصبحت أساس الأسئلة التي استخدمتها نيف لوضع مقياس التعاطف مع الذات ]انظر "هل أنت متعاطف مع ذاتك؟" في الأسفل[، وهي أداة نشرتها في عام 2003 في دورية "سيلف آند آيدنتيتي" Self and Identity، يستخدمها باحثون آخرون حاليًّا على نطاق واسع، لقياس مستوى امتلاك الشخص هذه الصفة.
وباستخدام هذا المقياس، أظهرت نيف أن التعاطف مع الذات يرتبط بتحقيق نتائج مهمة على أرض الواقع. فعلى وجه التحديد، وجدت نيف أن الأشخاص الذين أحرزوا نقاطًا مرتفعة على مقياس التعاطف مع الذات هم أقل عرضة للإصابة بالقلق والاكتئاب. وقد تعرضت عالِمة النفس جوليانا براينز لأعمال نيف للمرة الأولى عندما كانت طالبة في جامعة ميشيجان. تشكَّكت براينز في قدرة التعاطف مع الذات على مساعدة الناس في التَّحَصُّن من تقلُّبات المشاعر المصاحبة بـ"الثقة المشروطة بالنفس"؛ وهي المشكلة التي تتمثل في ربط تقييمك لنفسك بعوامل مُتَقَلِّبَة، مثل النجاح الأكاديمي وموافقة الآخرين. أوضحت دراسات كثيرة أن هذا النوع من التفكير غير مفيد للصحة النفسية أو للتعلُّم. ولكن براينز كانت قلقة من أن يتسبب التعاطف مع الذات في تقويض الحماس أيضًا. فكما تقول: "التعاطف مع الذات قد يكون مريحًا، لكن هل يتيح لك الهروب من المواقف الصعبة بسهولة؟".
اختبرت براينز هذا السؤال بعد بضع سنوات، في أثناء عملها بجامعة كاليفورنيا ببيركلي بعد التخرج. ففي تجربة ضمن سلسلة من التجارب المختلفة، أخضعت هي وزملاؤها 86 طالبًا جامعيًّا لاختبار مفردات صعب. ولرؤية تأثير التعاطف مع الذات على السلوك في الدراسة، أخبر الباحثون مجموعة من الطلاب أنه من الطبيعي أن يجدوا الامتحان صعبًا، وحثوهم على ألا يقسوا على أنفسهم. وتلقت مجموعة ثانية رسالة تركز على الثقة بالنفس: "حاولوا ألا تشعروا بالسوء حيال أنفسكم، لا بد أنكم أذكياء لأنكم استطعتم الالتحاق بجامعة بيركلي". ولم تتلقَّ المجموعة الثالثة أية عبارات إضافية في أثناء التجربة.
ثم عمل الباحثون بعد ذلك على قياس الوقت الذي استغرقه هؤلاء الطلبة في المذاكرة استعدادًا لامتحان ثانٍ مماثل. ووجدوا -كما ذكروا من قبل في مجلة "بيرسوناليتي آند سوشيال سيكولوجي بوليتن" Personality and Social Psychology Bulletin في عام 2012- أن المجموعة التي مارست سلوك التعاطف مع الذات قضت وقتًا في المذاكرة أكثر من مجموعة الثقة بالنفس بنسبة 33%، وأكثر من المجموعة المحايدة المرجعية بنسبة 51%؛ في إشارة إلى أن التعاطف مع الذات يزيد الحماس. فمعاملة النفس بلطف ربما تجعلك لا تخشى الإخفاق، مما يشجعك على المحاولة مرة أخرى.
في دراستين أُجريتا عام 2012 بقيادة العالِمة المتخصصة في علم النفس الاجتماعي آشلي باتس ألين، وكانت وقتها تعمل بجامعة ديوك، وجد الباحثون من خلال دراستهم للتعاطف مع الذات في البالغين الأكبر سنًّا فوائد نفسية وعملية. إذ وجدوا في الدراسة الأولى، التي أُجريت على 132 مشاركًا تتراوح أعمارهم بين 67 و90 عامًا، أن الأشخاص شديدي التعاطف مع الذات كانوا يشعرون بحالة جيدة أكثر من غيرهم، حتى لو كانوا يعانون مشكلات صحية. وفي الدراسة الثانية، التي أجريت على 71 مُسِنًّا، أشار التعاطف مع الذات إلى مدى استعدادهم لاستخدام عكازات عند الضرورة. تقول ألين -التي تعمل حاليًّا بجامعة نورث كارولاينا في بمبروك-: "الأشخاص المتعاطفون مع ذاتهم كانوا أقل انزعاجًا من حقيقة أنهم يحتاجون إلى المساعدة".
ويضيف مارك ليري -عالِم النفس بجامعة ديوك، والذي تعاون مع ألين- أنه إذا كنت قليل التعاطف مع ذاتك، "فإنك تستهلك الكثير من الطاقة العاطفية في التفكير في المشاعر السيئة"، ولا تخصص ما يكفي لمواجهة المشكلات الحقيقية. فعلى سبيل المثال، تبَيَّن أن إنكار مشكلة واحدة، كالإصرار على عدم استخدام العكازات مثلًا، يمكن أن يخلق المزيد من الصعاب، كحدوث كسر في الحوض. وفي المقابل، فإن الوعي الذهني المتضمَّن في التعاطف مع الذات، يقود الأشخاص إلى التسليم بالحقيقة وتقبُّلها، دون إصدار أحكام عاطفية. كما أن لمُكَوِّن الإنسانية المشتركة دورًا كذلك، فهو على سبيل المثال يسمح للشخص بإدراك حقيقة أن الجميع يعانون مشكلات جسدية مع تقدمهم في العمر.
في عام 2014، عمل ليري وزملاؤه على دراسة 187 شخصًا أغلبهم أمريكيون من أصول أفريقية ويعانون من فيروس نقص المناعة البشرية (HIV). أظهر المرضى الذين يُبدون قدرًا أكبر من التعاطف مع الذات ردود أفعال صحية أكثر تجاه الحياة مع الفيروس المميت؛ إذ بَدَوا أقل توترًا، وأقل خجلًا من حالتهم الصحية، وأكثر قدرة على التعبير عن استعدادهم للإفصاح عن إصابتهم، والالتزام بالعلاج الطبي. كشف تحليل إحصائي أُجري عام 2015 على 15 دراسة بإجمالي 3,252 مشاركًا، نُشِرَ في دورية "هيلث سيكولوجي" Health Psychology، عن وجود روابط بين التعاطف مع الذات والسلوكيات المعزِّزة للصحة، المرتبطة بالأكل، وممارسة الرياضة، والنوم، والتعامل مع الضغوطات.
العودة مرة أخرى إلى الحالة الطبيعية
تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص المتعاطفين مع ذاتهم يتمتعون بقدر أكبر من المرونة النفسية، وبقدرة أفضل على استعادة سلامتهم العاطفية بعد المرور بمحنة. فعلى سبيل المثال، الأشخاص الذين استخدموا لغة التعاطف مع الذات بعد المرور بتجربة الطلاق تعافوا أسرع من الأشخاص الذين ينقدون ذاتهم لفشل العلاقة، أو يرثون لحالهم (متسائلين: "لماذا يحدث لي هذا؟")، وفقًا لدراسة أُجريت عام 2012 على 109 من البالغين.
ويمكن أن يستفيد المربون كذلك من الأمر. فإن تربية طفل يعاني التوحد، على سبيل المثال، أصعب عاطفيًّا من غيره، إذ يعاني المربي مستويات من الضغط النفسي والشعور باليأس وفق شدة الأعراض التي تظهر على الطفل. إلا أن دراسة أُجريت عام 2015 على 51 أبًا وأمًّا لأطفال يعانون التوحد قد وجدت أن تعاطف الآباء والأمهات مع ذاتهم كان أكثر أهمية من شدة الأعراض التي تظهر على الطفل لتوقُّع مدى رفاهية المربي.
وهناك مثال آخر يقدمه 115 من المقاتلين القدامى في حروب العراق وأفغانستان. ففي دراسة نُشِرَت عام 2015 في دورية "جورنال أوف تروماتيك ستريس" Journal of Traumatic Stress، تَبيَّن أن المحاربين المتعاطفين مع ذاتهم قد ظهرت عليهم أعراض أقل حدة بكثير لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مقارنة بمن هم أقل تعاطفًا مع ذاتهم، حتى بعد حساب درجة التعرض للأعمال القتالية. تقول نيف: "يُعَدُّ ذلك دليلًا قويًّا على فكرة أن الأمر لا يتعلق بما تمر به، وإنما يتعلق بكيفية تعاملك مع نفسك عند المرور بأوقات عصيبة جدًّا".
وتشير دراسات حديثة أُجريت على أناس مصابين باضطرابات نفسية أخرى، بما في ذلك الإسراف في الأكل واضطراب الشخصية الحدِّي، إلى أن التعاطف مع الذات يساعد على التعافي. وتنوِّه أليسون كيلي -عالِمة النفس بجامعة واترلو في أونتاريو، التي درست تأثير العلاج القائم على التعاطف مع الذات على اضطراب الإسراف في الأكل- إلى أن التعافي لا يستلزم فقط تعلُّم مقاومة الرغبة في الأكل، بل يستلزم كذلك معرفة كيفية العودة إلى الحالة الطبيعية بعد الاستسلام لهذه الرغبة. تقول كيلي: "إذا كنت تهدد نفسك وتدفعها للتغيير وتجلد ذاتك كلما انزلقت، كمعاملة المدرب العسكري لجنوده أو معاملة المعلم المنتقِد، فإن ذلك يُصَعِّب عليك الشعور بالهدوء أو بالثقة في النفس، وكثيرًا ما يسلبك القدرة على التَّفَكُّر والتَّعلُّم مما تمر به".
قد يبدو أن التعاطف مع الذات يرتبط بالثقة بالنفس. لكن في الحقيقة، يمكن للتعاطف مع الذات أن يكون مصحوبًا بانخفاض الثقة بالنفس، كما يمكنه أن يقي منه. في دراسة طولية أُجريت عام 2015 بقيادة سارة مارشال، عالِمة النفس بالجامعة الأسترالية الكاثوليكية، تتبع الباحثون مجموعة مؤلفة من 2,448 طالبًا مع انتقالهم من الصف التاسع إلى الصف العاشر. وجدت مارشال أن ارتفاع الثقة بالنفس كان مؤشرًا على التمتع بصحة عقلية جيدة، بغض النظر عن مستوى التعاطف مع الذات الذي يتمتع به الطالب. إلا أن الأطفال المتعاطفين مع ذاتهم والذين يعانون انخفاضًا في الثقة بالنفس كانت صحتهم العقلية جيدة أيضًا.
وترى ليري -من جامعة ديوك- أن هذه الأخبار جيدة، إذ إنه من الأسهل عادةً زيادة التعاطف مع الذات لدى الشخص عن تنمية ثقته بنفسه. وتقول: "من الصعب فعلًا أن تجعل شخصًا يعاني من انخفاض ثقته بنفسه يحب نفسه دون أن ينمِّي المزيد من المهارات الاجتماعية أو يحصل على وظيفة أفضل أو شيء من هذا القبيل". وعلى سبيل المقارنة، فإن التخلص من العادات السيئة المصاحبة لانخفاض التعاطف مع الذات، مثل إنكار مشكلة قائمة أو ممارسة جلد الذات، يُعَدُّ أسهل.
علاقات أقوى
تشير أبحاث حديثة إلى أن التعاطف مع الذات مفيد أيضًا للعلاقات. قادت نيف دراسة في عام 2013، أُجريت على 104 من الأزواج والزوجات، وركزت على كيفية تعامُل الأشخاص المتعاطفين مع ذاتهم مع شركاء حياتهم، من وجهة نظر الشريك. بشكل عام، تبين أن الرجال والنساء الذين سجلوا مستويات عالية من التعاطف مع الذات كانوا أكثر عطفًا ودعمًا (وأقل تسلطًا وأقل ممارسةً للعدوان اللفظي)، مقارنةً بالأشخاص الذين يعانون انخفاضًا في مستوى التعاطف مع الذات.
إلا أن نيف وجدت أيضًا أن أغلب الناس يتعاطفون مع الآخرين بسهولة أكبر من تعاطفهم مع ذاتهم. وقد دللت على ذلك بوضوح في دراسة أخرى أجرتها عام 2013، قيمت فيها مستوى التعاطف مع الذات والتعاطف مع الآخرين لدى 384 طالبًا جامعيًّا. ولم تجد نيف علاقة نهائيًّا بين الاثنين، بينما أظهرت دراسات مشابهة أُجريت على ممارسي التأمل وبالغين عاديين وجود روابط ضعيفة فقط. كما لاحظت أيضًا أن ممارسي تأمل "ميتا" البوذي –المنطوي على اللطف المصحوب بالحب، وهو نوع من التأمل تبدأه بتمني الخير لنفسك ثم توَسِّع من نيتك الحسنة لتشمل دائرة متسعة من التعاطف- يهتمون اهتمامًا ضعيفًا بالجزء الأول منه، ويركزون بدلًا من ذلك على جزء اللطف بالآخرين.
ولكن إذا وجد الناس أن تعاطفهم مع الآخرين أسهل من تعاطفهم مع ذاتهم، فكيف يمكننا تفسير نتائج دراسة الأزواج؟ تعتقد نيف أنه رغم إمكانية أن نكون لطفاء مع الآخرين أكثر من أنفسنا، لن يساعد ذلك الناس على تكوين علاقات طويلة الأمد. إذ تقول: "إذا كرست نفسك بالكامل لشريك حياتك وكنت قاسيًا على نفسك، فلن تستطيع الحفاظ على استمرار علاقة صحية".
ويتوافق هذا التحليل مع نتائج نُشِرَت في عام 2013 في دورية "سيلف آند آيدنتيتي" Self and Identity، أظهرت كيفية إدارة الأشخاص المتعاطفين مع ذاتهم للخلافات في علاقاتهم مع الآخرين. أُجرِيَت الدراسة التي تمت تحت قيادة ليزا يارنل -عالِمة الإحصاء التطبيقي- على 506 طلاب جامعيين. وجدت يارنل -التي تعمل حاليًّا بمعاهد البحوث الأمريكية- أن الطلاب الذين يتمتعون بدرجة عالية من التعاطف مع الذات يتمكنون بشكل أفضل من خلق توازن بين احتياجاتهم واحتياجات الآخرين، وشعروا بتحسُّن إزاء حل أحد الخلافات، مقارنةً بمن يتمتعون بدرجة منخفضة من التعاطف مع الذات. وأظهر الأشخاص المتعاطفون مع ذاتهم مستويات أقل من الاضطراب العاطفي، ودرجة أعلى من السعادة في علاقاتهم.
ولهذه النتائج تبعات مهمة بالنسبة لمقدمي الرعاية بدوام كامل، الذين من المعروف منذ وقت طويل أنهم عرضة للإصابة بالاستنزاف و"فتور التعاطُف"، أي الشعور بالضجر من إبداء التعاطف بسبب الإفراط فيه. في الحقيقة، أشارت دراسة استقصائية شاملة لعدة قطاعات، أُجريت عام 2016 على 280 ممرضة معتمدة في البرتغال، إلى أنه رغم أن الممرضات اللاتي يتمتعن بمستويات أعلى من التعاطف مع الآخرين كُنَّ أكثر عرضةً للإصابة بفتور التعاطف، فإن التعاطف مع الآخرين لم يكن عامل خطورة إذا كان مصاحبًا للتعاطف مع الذات.
تعليم التعاطف مع الذات
إذا كان التعاطف مع الذات يحقق الكثير من النتائج الإيجابية، فهل يستطيع الناس تعلُّم كيف يكونون أكثر لطفًا مع أنفسهم؟ أحد التدخلات العلاجية الواعدة هو التعاطف الواعي مع الذات (MSC)، وهو ورشة عمل تمتد لثمانية أسابيع، طورتها نيف بالتعاون مع المتخصص في علم النفس الطبي كرستوفر جيرمر، والذي يعمل مدرسًا بدوام جزئي بكلية الطب بجامعة هارفارد. يشرح برنامج التعاطف الواعي مع الذات، المُصَمَّم من أجل عامة الناس، الأبحاث المجراة على التعاطف مع الذات، ويقدم مجموعة متنوعة من التمارين مثل الاستمتاع بالتجارب السعيدة، والتربيت على الجسد بهدوء، واستخدام صوت دافئ ولطيف، وكتابة رسالة لنفسك من صديق خيالي مُحِب لك. ذكرت نيف وجيرمر في دراسة صغيرة نُشِرَت عام 2013 أن خمسة وعشرين شخصًا كانوا قد أتموا الورشة (أغلبهم من النساء في منتصف العمر) شعروا بارتفاع في مستوى التعاطف مع ذاتهم، وأصبحوا أكثر سعادة مقارنة بمجموعة مماثلة وُضِعت بشكل عشوائي على قائمة الانتظار لحضور الورشة. وعلاوة على ذلك، حافظ المشاركون في الورشة على مكاسبهم تلك لمدة عام بعد ذلك. ومن المثير للاهتمام أن الأشخاص في المجموعة المرجعية أظهروا أيضًا ارتفاعًا في درجات التعاطف مع الذات بنسبة 6.5% بين مرحلة ما قبل الاختبار ومرحلة ما بعد الاختبار، في حين ارتفعت درجات التعاطف مع الذات في المجموعة الخاضعة للتجربة بنسبة 42.6%. وتسببت هذه النتائج في إرباك الباحثين في البداية، إلى أن اكتشفوا أن المجموعة التي وُضِعَت على قائمة الانتظار استغلت الوقت في القراءة عن التعاطف مع الذات بشكل مستقل، عن طريق الكتب ومواقع على الإنترنت.
وتقول جولييتا جالانت -الباحثة المساعدة المتخصصة في الطب النفسي بجامعة كامبريدج-: إن الأمر لا يزال ملتبسًا حول مدى ارتباط نجاح المشاركين في ورشة التعاطف الواعي مع النفس بالتمرين نفسه، في مقابل ارتباطه مثلًا بوجودهم وسط مجموعة، أو بحصولهم على توجيه من معلمين يُظهرون الاهتمام. نشرت جالانت وزملاؤها العام الماضي نتائج دراسة عشوائية محكمة أجريت عبر الإنترنت واستغرقت أربعة أسابيع، حول ممارسة تأمل اللطف المصحوب بالحب - وهو تمرين كثيرًا ما يُستَخدَم لتنمية التعاطف مع الذات ومع الآخرين، لكنه لا يهدف تحديدًا إلى تخفيف المعاناة. ولم يجد الفريق أي فرق بين المجموعة التي خضعت لتمرين التأمل والمجموعة المرجعية التي أجرت بعض التمرينات البدنية الخفيفة.
إضافة إلى ذلك، فإن كثيرًا من المشاركين انقطعوا عن العلاج، فقد شعر بعضهم بانفعالات عاطفية مزعجة، كالبكاء دون توقف أو إدراك أنهم لم يكن لديهم في حياتهم أي علاقات غير معقدة. لذا هيأ جيرمر ونيف المشاركين في ورشة العمل لهذا الاحتمال، باستخدام المصطلح المستخدم في إطفاء الحرائق "ارتداد النيران" لشرح الظاهرة؛ فكما تندفع النيران إلى خارج الغرفة بمجرد عودة الأكسجين، يمكن للألم القديم أن يعاود الظهور على السطح بعد تدفق التعاطف لدى الأشخاص المحرومين من الحب. ويُحتمل أن يحتاج بعض الأشخاص إلى التدرج ببطء في ممارسة التعاطف مع الذات، ربما بمساعدة أحد المعالجين، قبل حضور الدورة.
ويتفق بول جيلبرت -أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة دربي في إنجلترا- مع هذا الرأي. فقد لاحظ خلال الأعوام التي قضاها في علاج ضحايا إساءة المعاملة أو الإهمال في أثناء فترة الطفولة، أن اللطف يمكن أن يأتي بنتائج عكسية. فأي شيء يثير مشاعر الارتباط الهشة لدى الشخص يمكن أن يجعله يستحضر ذكريات صدمات نفسية سابقة، خصوصًا في حالات التعرض لإساءة المعاملة في فترة الطفولة. ويقول جيلبرت إنه يصعب الشروع في تدريب العامَّة؛ لأن "هناك مخاوف كثيرة من التعاطف ورفضًا له، لدرجة ربما تجعل الشخص يفقد أعصابه".
إن العلاج القائم على التعاطف (CFT)، الذي طوَّره جيلبرت لأجل هؤلاء المرضى واختبره من خلال دراسات أُجريت على نطاق ضيق، يبدأ بالتوعية النفسية ثم يمضي قدمًا بشكل تدريجي. فعلى سبيل المثال، يشرح جيلبرت للمرضى كيف أن نقد الذات ليس خطأهم، ويوضح لهم أنه ربما نشأ كطريقة لحماية أنفسهم من الآباء والأمهات الذين يستخدمون أسلوب التهديد. وبمجرد أن يفهم المرضى أنه لا ذنب لهم في جيناتهم ولا في البيئة التي أحاطت بهم في طفولتهم، يستطيعون بعد ذلك التخلص من الشعور بالعار، ويبدأون في تحمل مسؤولية مستقبلهم.
وهذا ما فعلته ميشيل راب. فرغم أنها مارست التعاطف مع الذات بشكل مستقل، فإن تعرُّضها لهذا النوع من العلاج في السابق مهد الطريق لرحلتها. وفي نهاية المطاف استطاعت أن تتقبل الإصابة التي تعرضت لها والانتكاسات التي مرت بها، وتخلصت من الحرج الذي كانت كثيرًا ما تشعر به عند طلب المساعدة. وفي أثناء تعافيها، توقفت عن دفع نفسها على العَرَج على عكازات حتى موقف الحافلات، وأصبحت تستقل سيارة أجرة بدلًا من ذلك، فقد علمت أنها تستحق ذلك.
هل أنت متعاطف مع ذاتك؟
العبارات الآتية مأخوذة من تقييم ابتكرته عالِمة النفس كريستين دي. نيف. في نسخته الكاملة (http://bit.ly/SlfCompassion)، تقوم بتقييم نفسك على مقياس يتدرج من 1 إلى 5، حيث يعني الرقم 1 "نادرًا جدًّا"، ويعني الرقم 5 "تقريبًا دائمًا".
عبارات مصحوبة بدرجة عالية من التعاطف مع الذات:
أحاول أن أنظر إلى إخفاقاتي على أنها جزء من الحالة البشرية.
عند مروري بوقت عصيب جدًّا، أحاول أن أحافظ على اتزان مشاعري.
أحاول أن أكون مُتَفَهِّمًا وصبورًا تجاه الجوانب التي لا أحبها في شخصيتي.
عبارات مرتبطة بدرجة منخفضة من التعاطف مع الذات:
عندما أخفق في شيء مهم بالنسبة لي، يستحوذ عليَّ شعور بالعجز.
عندما أشعر بالإحباط، أميل إلى الشعور بأن معظم الأشخاص الآخرين أسعد مني.
أستنكر عيوبي وأَوجُه القصور لديَّ وأنتقدها.
المصدر: “The Development and Validation of a Scale to Measure Self-Compassion,” by Kristin D. Neff, in Self and Identity, Vol. 2, No. 3; 2003
خذ قسطًا من الراحة
نصائح الخبراء لكي تنمي لديك التعاطف مع الذات:
عليك إدراك أن جلد الذات لن يساعدك على تحقيق أهدافك، بل سيعطلك فعلًا عن تحقيقها.
إذا كانت فكرة التعاطف مع الذات تخيفك، ربما لتعرُّضك لإساءة معاملة في الماضي، فَكِّر في الاستعانة باستشاري مدرب على استخدام العلاج القائم على التعاطف.
لو كنت ولي أمر أو مدرسًا، اعقد توازنًا بين الاحتفال بإنجازات الأطفال ومساعدتهم على تقبل فكرة أن المرور بالصعاب أمر طبيعي أيضًا.
الجميع مختلفون، لذا تعرَّف على ممارسات التعاطف مع الذات التي قد تناسبك. (يمكن أن تجد تدريبات على موقع عالمة النفس كريستين دي. نيف : http://self-compassion.org/category/exercises)
إذا كنت تجد صعوبة في ممارسة تدريبات التعاطف مع الذات، تحلَّ بالصبر وكن متسامحًا مع نفسك، حتى وإن كان ذلك يعني عدم ممارسة التعاطف مع الذات. – مارينا كراكوفسكي
نُشرت هذه المقالة في الأصل تحت عنوان "حل التعاطف مع الذات" - The Self-Compassion Solution.
تعليقات
إرسال تعليق