إذا كان من الصعب في العادة أن نثبت علميا العلاقة بين الآلام النفسية وآلام الظهر، فإن الصلة بين آلام الظهر والإجهاد النفسي أكدتها دراسة حديثة أجرتها جامعة ولاية أوهايو.
لقد أظهرت هذه الدراسة أن الأشخاص الذين يتعرضون لضغوط شفوية عالية يستخدمون أسوأ العضلات لرفع حمل من الأحمال. بينما الأشخاص الذين يتمكنون من "التخلص من التوتر النفسي" من خلال الاحتجاج صراحة ضد الهجمات الكلامية عليهم هم الذين يستمرون في استخدام عضلاتهم القوية بصورة عادية.
آلامُ الظهر، آلامُ الرأس؟ وراء هذه الآلام مكان مشترك يُخفي جزءا كبيرا من الحقيقة. ففيما وراء الأسباب الفسيولوجية تمثل آلامُ الظهر تحذيرا وناقوس خطر من المفيد أن نُصغي إليه لمعرفة المزيد عن أنفسنا، وعن علاقتنا مع الآخرين. وهذا ما تساعدنا الطبيبة النفسية دلفين ديبروند على فهمه، أي على فك لغة الجسم التي تحمل رسائل لا غنى لنا عن فهمها.
"آلام الظهر لا تفارقني، لكن مع التوتر النفسي الذي أكابده في العمل، وهذا أمر طبيعي!". "آلام في ظهرك؟ لا عليك، إنها الهموم!"، ما أكثر الذين خبروا هذه الصلة الغريبة بين الدماغ والظهر. فلا غرو أن يرى الكثير أن حالة القلق والاضطراب والهموم التي تصيب عقولنا هي مصدر آلام الظهر التي ترهقنا، مثل غيرها من حالات شدّ العضلات المؤلمة.
والحال أن هذه الصلة، في الواقع، أكثر تعقيدا مما نتصور من أول وهلة. ومن الأمثلة على ذلك أن الشخص الذي يمر بمرحلة من الاكتئاب سيكون أقل صبرا وتحملا للألم من أي شخص آخر. وبالطريقة نفسها، فإن الألم الذي يكون قد استقر في الجسد منذ فترة طويلة قد يدمّر على المدى البعيد هناءَ ومعنويات الشخص المتألم. وفي تأكيدها هذه الحقيقة، تقول دلفين ديبروند: "في أثناء الاستشارة الطبية النفسية نكتشف بوضوح أن الصلة الوثيقة بين الظهر والعقل ليست صلة ملتبسة أو غامضة، بل هي صلة وثيقة ومتشابكة. وهذا يثبت لنا حقيقة مهمة، وهي أن أكبر خطر نواجهه أثناء التكفل بآلام الظهر هو فصل الجسد عن النفس. لأنهما متفاعلان بلا انقطاع".
إشارة إنذار
سواء كان العرض ألما جسديا، أو نفسيا، مثل القلق، على سبيل المثال، فإن ألم الظهر في رأي دلفين ديبروند رسول ثمين: "إنه إشارة تحذير إلى أننا قد تجاوزنا الحدود". ميلاد طفل، أو ارتحال، أو فقدان لعزيز أو ترقية مهنية... فلما كان الألم غالبا ما يحدث خلال أوقات التحول الكبرى في حياتنا، فمن المغري جدا أن نُحمّل هذه التغيرات "التي لا تمر بسهولة" مسؤولية هذه الآلام.
لكنّ مصدر القلق جدير في غالب الأحيان بأن نبحث عنه أبعد من ذلك قليلا. "إن الصلة بين العقل والجسم ليست واضحة دائما"، تقول الطبيبة النفسية دلفين ديبروند. "فالحال أن آلام الظهر في معظم الأوقات تظهر بعد فترة طويلة من الأعراض التي تتطور في صوت خافت في البداية من دون سابق إنذار. في البداية نشعر بتوتر (ألم) في أسفل الظهر عندما نكون في حالة من التوتر، وينتهي بنا الأمر ذات صباح بعدم القدرة على النهوض من السرير. فالحدث في حد ذاته يكتفي في غالب الأحيان بجعل آلام الظهر، إن أوليناه انتباهنا، أكثر قابلية للقراءة".
لغة أخرى
ترى الطبيبة النفسية دلفين ديبروند، أن ألم الظهر يمثل فيما وراء إشارة الخطر مستوى آخر من اللغة من صالحنا أن نحاول فكّها. "إنها لغة الجسم. فعندما تستولي علينا انفعالاتنا أحيانا في خضم متاعبنا الحياتية فالذي يحدث أننا لا نكون دائما قادرين على تحليل ما يصيبنا وما نحس به حقا، فنجد أنفسنا فريسة لتوترات عديدة من دون أن نفهم من سرها الشيء الكثير. وهنا في غالب الأحيان تظهر آلام الظهر، لأنها السبيل الوحيد الذي نجده للتعبير من حيث لا ندري -لاشعوريا- عن ألمٍ أو عن قلق، أيا كانت طبيعته".
فلذلك إذن يجدر بنا منذ بداية آلام الظهر، أن نُنصت إلى الألم بعناية كافية. وعلينا أن نسائل أنفسنا ما الذي يثقل كاهلنا، وما الذي يقف وراء هذا الذي يرهقنا، وما الذي وقع لنا في ماض قريب، لكي نتمكن من كشف الصلة التي تربطنا بالألم الذي يصيبنا. وبالتعاون مع طبيب نفسي (والحال مع الأسف أنه قلّما نجد هذا الطبيب في عالمنا العربي) نستطيع أن نستكشف ما الذي يريد ظهرُنا أن يعلمنا إياه ويخبرنا به عن ذواتنا. إنه يكشف لنا عن أشياء نجهلها في كثير من الأحيان. أشياء لسنا دائما على استعداد لرؤيتها ومواجهتها. وهنا المعضلة!
تجديد الاتصال مع الذات، والتحدث إلى الآخر
إن المرَض، لو بحثنا في أصل الكلمة، يعني أننا مُضللون، وأننا نسير في طريق خاطئ، هكذا تقول دلفين ديبروند. فعندما نكون مرضى، يعني ذلك أن ثمة شيئا ما يجب إعادة النظر فيه في مجال توجيه الذات نحو الوجهة الصحيحة السوية. وهذه واحدة من الفوائد الثانوية لألم الظهر الذي نعاني منه؛ لأنه "حين نستنفر نفسيا يأتي الألم ليوقظنا". أجل، ليعيدنا إلى سماع الانفعالات التي يثيرها الألم في نفوسنا، وإلى إعادة الاتصال بذواتنا. ويدعونا لأن نفكر في أنفسنا، بكل بساطة.
إن آلام الظهر غالبا ما تثبت أنها تحمل الكثير من الدلالات. شريطة أن يرغب الشخص المتألم في الاستماع إلى هذه الرسالة واستيعابها. إلا أن الحال ليس كذلك دائما. إمّا لأن المتألم يرى في الألم عقابا حقًا على حالة الوعكة التي يمر بها ("إن عملي ليس متفقا مع قيمي الشخصية ولذلك فأنا أستحق هذه الآلام")، وإما لأن هذا الشخص المتألم صار شخصا قدَرياً أكثر ممّا يحق له ("آلام في الرأس فلا حيلة لي فيها"). علما هنا بأن المريض قد يُبرر آلامه بصورة لاشعورية، أي من حيث لا يدري. ولذلك كانت معرفة وظيفة اللاشعور وتأثيره علينا وعلى سلوكاتنا اليومية أمرا ضروريا.
لكن رسالة الظهر في نظر محللتنا النفسية، ليست دائما ما نتصوره أو نعتقده، إذ تقول في هذا الشأن: "إن الألم يمكن أيضا أن يكون ذريعة كبرى؛ كالبقاء، على سبيل المثال، عبدا لإدمان الأدوية أو الرعاية، لكي لا نعيش حياتنا الطبيعية"، وذلك لأسباب تتعلق بالشعور بالذنب المكبوت، وهذا موضوع يطول الحديث فيه. وفي هذا السياق، تضيف المحللة: "فكم من مرة سمعتُ في عيادة العلاج: "أشعر بالوجع في هذا الوضع، ولذا لا أريد أن ألتقي بأيٍّ كان في حياتي".
ويعني ذلك أن ألم الظهر لا يتكلم فقط عن أنفسنا وإنما أيضا عن علاقتنا مع الآخر. وفي هذا الشأن تقول دلفين ديبروند "إن الألم يعبّر أحيانا عما لا نستطيع أن نقوله لهذا الآخر على نحو آخر. شيء من قبيل "انظرْ كيف أعاني". أو بالأحرى: "انظرْ كيف أعاني معك!"، ففي هذه الحالة أو تلك نكتشف أن الألم النفسي ألمٌ حقيقي، وهنا تحديدا قد يصبح العلاج النفسي إيجابيا بالنسبة للشخص المتألم. "ثمة حقيقة نعرفها جيدا"، تقول دلفين ديبروند، وهي أن آلام الظهر قد تؤدي بسرعة إلى فقدان الاستقلالية. فقدان الزخم، والرغبة. ومن ثمة فقدان الحيوية والحياة.
والحال أنه عندما يكون الألم حادا أو قديما، فإنه من الصعب أن يخرج الشخص المريض من حتميته (أي قدريته). ومن أن يقنع نفسه بضرورة التكفل النفسي والجسدي عندما يكون قد اعتاد إسكات الألم بالاستعمال المفرط للمسكنات، وبمنع نفسه من حق البحث عن الأفضل.
ومع ذلك، فمن الضروري، في رأي الطبيبة النفسية، أن نخلق فضاءات تتيح لنا الإحساس بالألم، وبالوعي بالمعنى الذي يحمله إلينا. لكنْ، مَن نستشيره إذا عجز الطب التقليدي "الكلاسيكي" عن تخفيف آلامنا؟ فالحل، بالنسبة لدلفين ديبروند، هو التوجه منذ اللحظة التي نحس فيها بالألم إلى اختصاصي في الأمراض السيكوجسدية. فهو الوحيد القادر على تقدير البعد النفسي للألم الجسدي. فالأمر إذن هو التكفل بالمريض، نفسيا وجسديا، لأن الصلة وثيقة بين البُعدين. وأما الاكتفاء بالأعراض الجسدية المباشرة وحدها فلن يجدي ذلك نفعا. فالمرض لا يتوقف عند حدود الأعراض وحدها، وهذا ما يجب أن نفهمه حتى لا تتفاقم آلامُنا ونظل نسعى عبثا إلى إخمادها بالاعتماد على الطب الرسمي وحده إلى ما لا نهاية.
العمل على الألم
ما دور المقاربة النفسية الجسدية في التكفل بآلام الظهر؟ هذا الدور يتيح لنا مرافقة المريض في زيارة آلامه زيارة مختلفة. ويساعده على الاستناد إلى إحساسه الجسدي -ألم الظهر- لإظهار الانفعالات على السطح. نستطيع، على سبيل المثال، أن ندعو الشخص لأن يتمدد في وضع مريح ونترك له الوقت الكافي لكي يشعر بما يحدث في ظهره. ونستطيع على هذا النحو أن نقترح عليه بأن يستدعي في مخيلته صورة من الصور المرتبطة بآلامه حتى يعطي فرصة لبروز كل الرموز المرتبطة بالألم، ثم الانفعالات المرتبطة بهذا الألم، لكي تعبّر عن مدلولاتها الكامنة.
لأن الظهر بالنسبة للطبيبة النفسية دلفين ديبروند "يتعطل" تحديدا عندما تفقد هذه المستويات المختلفة -أي انفعالاتنا وأحاسيسنا وقدرتنا على التفكير- عن التواصل فيما بينها. ولذلك فإن العمل العلاجي هو الذي يتيح لنا العثور على الدلالة التي تقف وراء ما تفرضه علينا آلام ظُهورنا المُثقلة بالهموم.
تعليقات
إرسال تعليق