كان (بنجامين فرانكلين) المتوفي سنة 1790 ، عالماً وسياسياً في آن واحد معاً ، فقد كانت له أبحاثه واختراعاته في مجال الكهرباء ومقاومة الصواعق ، كما كان سفيراً لبلاده في فرنسا ، وصاحب إسهامات في استقلال الولايات المتحدة ، ويبدو أنه فوق ذلك كله كان حكيماً، وفقاً لما يظهر من كتاباته ومقولاته ، فقد قرأتُ له منذ سنوات طويلة حكمة دونتُها وحفظتها ، وطالما تذكّرتُها واستحضرتُها ، لِما فيها من عمق في المعنى ، وصدق في المضمون ، يقول فيها : (إن شقاء الإنسان يعود لعدم تقديره لقيم الأشياء) .
• لا ندفع مقابل السلعة أكثر من قيمتها ..
في الجانب الاقتصادي من حياتنا ، نحن ندرك غالباً ، أن الموارد محدودة والحاجات متزايدة ، فينطلق سلوكنا الرشيد من محاولة الموازنة بين جانب تلك الحاجات والرغبات التي لا تكاد تحدها حدود ، وجانب الموارد المادية التي تتسم بالندرة والمحدودية ، ومن قبيل هذه الموازنة أننا لا ندفع ثمناً لسلعة أو خدمة لا يتناسب مع ما تحققه لنا من إشباع . ولو أن ثمن منتج ما ارتفع بحيث أصبحت قيمته تزيد عن الإشباع المتوقع منه ، فإننا نبحث عن منتج بديل يحقق إشباعاً مشابهاً أو مماثلاً أو مُدانياً ، ولا يكلفنا ثمن السلعة أو الخدمة الأولى المرتفعة ، وربما – إذا لم نجد البديل المناسب - استغنينا عن تلك السلعة أو الخدمة ولم نعد نطلبها بسبب ارتفاع ثمنها .
• كثير من الطاقة .. مقابل أشياء زهيدة .
أما على المستوى النفسي والاجتماعي ، فكثيراً ما نكون أقل رشداً في استخدام الموارد ، فنبذل كثيراً من الطاقة ، ونعاني مزيداً من الضغط والتوتر والقلق ، ونحتمل ضيق الصدر ، ونهدر الوقت ، مقابل نيل أشياء زهيدة قد لا تستحق الثمن الذي ندفعه ، ومثال ذلك من يبذل الوقت والجهد وراحة البال من أجل تحقيق صورة له بين الناس ، أو تجنباً لقول يقولونه أو حكم يطلقونه . ومثاله كذلك أن ندخل في منازعات قد نهدم على أثرها أسرة ، أو نفقد عملاً ، أو نخسر صداقة ، أو نضحي بالراحة ، لمجرد كلمة قيلتْ ، أو موقف صغير بدر من أحد الأطراف ، أو حتى لمجرد خيالات وتهيؤات أو قناعات بالية . ونحن في كل ذلك ندفع لقاء هذه الصغائر ثمناً من الطاقة ، والوقت ، والأعصاب ، وأذى النفس ، والإضرار بالآخرين ، أكثر مما تستحق الواقعة أو يستحقه الحدث .
• داحس والغبراء ..!
إن شأننا فيما تقدم يشبه قصة داحس والغبراء ، الفرسين اللتين سبقت إحداهما الأخرى في العصر الجاهلي ، ونشبت إثر ذلك بين قبيلتي عبسٍ وذُبيان حرب دامت أربعين عاماً ، لا يعلم إلاّ الله كم قتل فيها من رجال ، وسُبيت نساء ، وكم أُهلك فيها من حرثٍ ونسل ، وضاعت طاقات وهدرت موارد وأوقات ، وكم بذل عنترة العبسي في معارك داحس والغبراء إياها وكم أنشد من قصائد والرماح منه نواهلِ ، وبيض الهند تقطر من دمه . وكم علّق زهير بن أبي سلمى من قصائد في سوق عكاظ في وصف واقعة أو أخرى من تلك الحرب . كل ذلك لأن فرساً سبقت أخرى ، إنه فعلاً الثمن الباهظ الذي ندفعه لقاء شيء تافه . إنه عدم تقدير قيمة الأشياء، وإضفاء أبعاد ومعانٍ وآثار على مجرد نتيجة سباق فرسين ، ومجرد حدث كان يمكن أن يُنظَرَ إليه على أنه مَحْضُ لعب أو رياضة أو تسلية .
• ثمن غياب الصدق ..
ولعل أكثر الناس اضطراراً لتسديد فاتورة تقدير الأشياء بأكثر من قيمتها ، هؤلاء الذين لا يعيشون الصدق في حياتهم وسلوكهم ، أعني اللذين يسعون للإيحاء بغير حقيقتهم وواقعهم ، كأولئك الذين يحاولون الظهور بمستوى مادي يفوق دخولهم ومواردهم ، فيدفعون ثمناً لذلك الاضطرار للاستدانة والتضحية بأولويات الصرف ، ويدفعون إضافة إلى هذه الكلفة القلق والتوتر الذي يحدثه الاضطرار الدائم للتكلف والتصنع وإظهار ما يجافي الحقيقة . وهو ثمن لشيء لا يستحق ، فسرعان ما يكتشف الناس الحقائق ، وحتى لو لم يكتشفوها ، فإن قيمة اعتقاد الناس بانتماء الشخص لمستوى الدخل العالي لا تستحق الثمن المدفوع فيها . وعلى ذلك قس سلوك كل من يحاولون الظهور والإيحاء بغير الحقيقة في أي مجال ، فثمن البساطة والصدق في السلوك ، وعدم السعي نحو تصوير الأمور على غير حقيقتها وواقعها هو الأقل والأنسب دائماً . والركض خلف المظاهر مكلف دائماً ، وثمنه لا يكون مادياً وحسب ، لكنه يستغرق أيضاً الجهد والوقت والراحة النفسية .
• ما يستحق القيمة ..
ويبدو أن من يَخْبَرُ الحياة بوقائعها وأحداثها ، ويعيش صروفها ونوائبها ، ويتأمل الأثمان المادية والمعنوية التي يتكلفها الناس في كثير من الأحيان لقاء ما لا يستحق ، يدرك أنه ليس ثمة في الدنيا ما يستحق القيمة أكثر من الصحة ، والمحبة ، والسلام النفسي والاجتماعي والإنساني ، وتحقيق الذات عن طريق الإنجاز الفعلي ، والمعاني الأخرى الجليلة كالحق والخير والجمال .
إبراهيم كشت
تعليقات
إرسال تعليق