كثيراً ما ترتبط كلمة البساطة في الأذهان بالجمال ، أو بالنَّمط المرغوب ، فمن باب المدح والثناء ، أنّ يقال عن كاتبٍ إن أسلوبه بسيط ، أو أنْ توصف مؤسسة ببساطة إجراءاتها ، أو أن يُنعتَ سلوك رجل بالبساطـة ، أو يذكر أن لباس إمرأة أو أثاث منزلها بسيط .
لكن رغم هذا الارتباط الإيجابي لكلمة البساطة بالأذهان ، إلا أن كثيراً وكثيراً جداً من أحاديثنا وسلوكاتنا وعلاقاتنا بالآخرين وعاداتنا ومظاهرنا وأنماط استهلاكنا ، أبعد ما تكون عن البساطة ، وأقرب ما تكون إلى التعقيد والتركيب والتداخل والتشابك .
البساطة على المستوى النفسي
إن تعبيرات العُقدة والتّعقيد والمعقّد ـ وهي نقيض البساطة ـ مصطلحات لها دلالاتها في الاستخدام العامي المتداول بين الناس ، كما أن لها دلالتها الاصطلاحية في علم النفس ، ففي الحديث المتبادل المتداول بين الناس يستخدم لفظ (المعقّد) للإشارة إلى المسألة أو المشكلة أو الظروف إذا كانت فيها معوقـــات تجعل حلها غير بسط . أو تجعلها مركبة ومتداخلة ومتشابكة . كما يستخدم لفظ (العقدة) في الحديث اليومي الدارج بين العامة ؛ للإشارة إلى معنى أكثر عمقاً من مجرد المعوقات ، فربما وُصِفَ شخص ما بأنه (معقّد) إذا كان غير سوي في بعض تصرفاته ، بحيث تصدر عنه ردات فعل في بعض المواقف ، تتسم بعدم النضج ، أو تتصف بالمبالغة ومجافاة التلقائية والعفوية والبساطة ، أو البعد عن السلوك الطبيعي العادي المتعارف عليه ؛ لأسباب غير واضحة أو غير مفسرة ومبررة .
أما الدلالة العملية لـ (العقدة ) فهي تشير إلى أفكار وانفعالات مترابطة مَكبوتَةٍ كُلياً أو جزئياً ، تصبِغُها شحنات عاطفيّة شديدة ، وتكون تلك الأفكار في صراع مع الأفكار المقبولة لدى الفرد ، وتؤثر لا شعورياً في تفكيره وسلوكه والواضح أنه كلما كان مَبعثُ سلوك الفرد وتفكيره ناجماً عن العُقَد ، كانت تصرفاته أبعد عن البساطة ، بينما يكون الأسوياء من الناس ، والأشخاص الأكثر نُضجاً ، هم الأقرب عادةً إلى البساطة في تفكيرهم ، وردود أفعالهم ، وعلاقاتهم ، وتقبّلهم للأمور ، وسلوكهم بوجه عام .
ويرى « روجيه موكيالي « في كتابه (العقد النفسية) أن للسلوك المعقد ـ وفقاً لما تحدده الملاحظة ـ ميزتين أساسيتين : أولاهما أنه سلوك مفرط ، فعّال ، ومتجاوز للحد ، فيه تهويل ، ينطلق من العدم ، أو من شيء قليل ، أو من تفصيل بسيط ، وثانيهما أنه سلوك تافه وممل ومكرر ، فالمصاب بعقدة (الاستعلاء) مثلاً لا يمل من إظهار قيمـة نفسه ، ومحاولـة جذب الانتباه ، مكرراً فعله هذا باستمرار .
البساطة على مستوى اللغة
على مستوى اللغة ، وقياساً على مدلول كلمة (البسيط) الذي يشير إلى ما يتألف من أجزاء قليلة متوافقة ، تستبعد العناصر غير الضروريـة ، فإن البساطة ــ وفقاً لما أرى ــ لا تعني استخدام اللغة العامية في التعليم والإعلام والكتابة والمراسلات ، كما قد يظن البعض ، ولا تعني تجنب الألفاظ الجزلة التي تمنح النَّصَ عمقاً وجمالاً كما إنها لا تعني النزول إلى لغة الشارع وسَطحيّة الخطاب ، ولكنها تعني الاختصار ، بأن تكون الكلمات بقدر المعاني ما أمكن ، أو كما يقال عند أهـل البيان : (أن تكون دون إطناب مُملٍ ، أو إيجاز مُخِلٍّ) ، وهذا ما يحقق فعلاً معنى قلة الأجزاء وتجانسها ، وعدم قبولها عناصر أخرى خارجية مضافة إليها ، أي أن هذا هو ما يحقق معنى البساطة في اللغة والكتابة والحديث .
ومثلما أن البلاغة في اللغة تشير إلى معنى الوضوح وإصابة المعنى ، فهي تحمل أيضاً مفهوم البساطة ، بمعنى ما يتكون من أجزاء قليلة تخلو من الإضافات التي لا داعي لها ، وفي ذلك يقول الأمدي مثلاً ، إن البلاغة هي : (( إصابة المعنى ، وإدراك الغرض بألفاظ سهلة مستعملة ، سليمة من التكلّف ، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة ، ولا تنقص نقصاناً يقف دون الغاية .. ))
البساطة على المستوى الإجتماعي
على المستوى الاجتماعي ، يبدو أنه كلما كان المجتمع أقربَ إلى التّخلف ، وأكثر انغماساً في النّمط الاستهلاكي مـن الحياة ، كان أكثر تعقيداً في عاداته وتقاليده ومتطلباته ، فإذا تَتبّعتَ الإجراءات والشروط والشّكليات العسيرة المطوّلة المتداخلة التي ترتبط بمسألة الزواج مثلاً في المجتمعات النامية ، ستدرك حجم التعقيد الداخل في صُلبها والمحيط بها ، ومقدار الابتعاد عـن البساطة في التعامل معها ، على نحو يجعل منها متطلباً صعباً يستهلك شطراً مـن العمر ، وكثيراً من الجهد ، ومزيداً من المال ، يُرهق الشباب وأَهليهم ، ويَرفع من معدل عُمر الزواج في المجتمع ، كما يزيد من نسبة العُنوسة ، بما يترتب على ذلك من آثار نفسية واجتماعية ، أشدُّ وأنكى من أية آثار إيجابية قد تنجم عن تعقيد اجراءات الزواج ، واحاطتها بهالة من الشكليات والمظاهر .
البساطة على صعيد أسلوب الحياة
أما على صعيد شكل المعيشة وأسلوب الحياة ، فإن البساطة منهجٌ في التفكير ، يحتاج تَبنِّيه إلى قَدْرٍ من النضوج ، وربما احتاجَ إلى نوع من التّحدي للمألوف والمتعارف عليه والمُستقر المقبول لدى المجتمع ، بحيث يتمكَّن المرء من أن يُؤْثِرَ حريّتهُ على رأي الناس فيه ، وأن يرجِّحَ راحته النفسية وهدأةَ بالهِ على القيم الاستهلاكية ، وعلى نظرة مـن حوله إليه ، فيختار اللباس المريح ، وحجم المنزل الكافي ، ونوع الأثاث البسيط ، ويُؤْثِرُها على الضخامـة والفخامة والزخرف والبهرجة ، ويوجّه مواردهُ من طاقةٍ ووقت ومال إلى قيمٍ أرقى ، ومعانٍ أجمل ، أو إلى إشباع حاجات أهم .
البساطة في الإدارة
عند الحديث عن البساطة ، يجدر التطرُّقُ إلى أهميتها في مجال الإدارة ، لأن لها على هذا الصعيد مدلولها ، وأهميتها ، وتطبيقاتها ، حيث تتسم الإدارة المُتّخلفة بالتعقيد ، لكثرة إجراءاتها وتداخلها ، بينما تسعى الإدارة العلمية المتقدمة إلى البساطة ، عن طريق تقليل الإجراءات التي يتطلبها أي إنجاز إلى أدنى حد ممكن ، بحيث تُحذَفُ كل الإجراءات التي لا تُسهِمُ فـي إصابة الهدف ، أو لا تعطي قيمة مضافة ، حتى نصل إلى درجة لا يمكن معها الحذف 0 ويدرك كل الذين يراجعون المؤسسات العامة لإنجاز معاملاتهم ، مقدار حاجتنا لمثل هذا النمط من التبسيط ، وهذا النــــوع من البساطة ، ولاسيما أن البساطة في الإدارة لا تعني مجرد السهولة ، بل تنعكس على تقليل كلفة الخدمات والمنتجات وتحسين جودتها .
خلاصة القول
زبدة هذا الحديث في موضوع البساطة ، هو أن السعي إليها يعني التركيز على العناصر المتجانسة التي تؤدي الغرض ، واستبعاد الأفكار والسلوكات والعادات والإجراءات ، وأنوع التَّزيُّد التي لا تخدم الهدف ، ولا تعطي قيمة حقيقية للإنجاز ، ولا يترتب عليها سوى المزيد مـن العسر والإرهـاق النفسي والعقلي والجسدي والمالي .
ابراهيم كشت
تعليقات
إرسال تعليق