إبراهيم كشت- يشيرُ لفظ (المُعلَّبات) إلى تلك الأطعمة الجاهزة المحفوظة في أوعية معدنية ، مُحكَمةَ الإغلاق ، تمنع تسرب الهواء إليها ، وهي في متناول اليد ، سهلة التداول ، يسيرة الاستخدام ، تكفي المرءَ عناءَ التَّحضير والطَّهي وتوابعهما ، وثمة في حياتنا أفكار جاهزة كثيرة ، نتوارثها ، أو نتناقلُها ، أو نقتبِسُها ، وهي شديدة الشَّبه من حيث طريقة حفظها وتداولها وسهولة استخدامها بالمعلبات ، ونجد أن الكثيرين منا يعوّلون على تلك الأفكار في تفسير الوقائع والأحداث والعلاقات من حولهم ، ويعتمدون عليها في إصدار الأحكام على الأفراد والجماعات والأمم والأفكار والثقافات والحضارات ، ويلجأون إليها في فهم المشاكل وتقديم الحلول القاطعة السريعة لها .
وكثيراً ما تأخذ هذه الأفكار المُعلَّبة صيغة المثل الشعبي ، أو الحكمة التراثية ، أو الشعارات ، أو صورة خلاصة الخبرات أو زبدة التجارب ، كما يَغلُب أن تُعرَضَ تلك الأفكار بصورة موجزة ، مختصرة ، فيها من البساطة و(السطحية) ما لا يتوافق مع ما في الحياة مـن تعقيد ، وتشابك في العوامل ، وتعدد في الأسباب المؤدية إلى النتائج ، وعلاقة جدلية بين السبب والنتيجة ، كما أنها من السّذاجة والسَّطحية بحيث لا تُراعي الاختلاف بين الأشخاص وطبائعهم ودوافعهم والمؤثرات التي توجههم والظروف المحيطة بمواقفهم وسلوكاتهم .
لماذا يُقبِلُ الناس
على استهلاك الأفكار المعلّبة
إن مما يشجِّع الناس على تبنّي الأفكار المُعلَّبة ، سواء بطريقة شعوريـة أو لاشعورية ، أن تلك الأفكار يَغلُبُ أن تُقدِّمَ أَسهل التّفسيرات ، بغضِّ النّظر عن صحة تلك التفسيرات أو بطلانها ، كما تقدم أَيسر الحلول ، دون اعتبار لصحة تلك الحلول ، أو آثارها المستقبلية ، أو مدى قدرتها على اجتثاث المشكلة ، أو معالجة أسبابها ، أو الحيلولة دون تكرارها ، أو منع ظهورها في ثوبٍ آخر جديد .
وإنك لتلمسُ مثل هـذه الأفكار المُعلَّبةَ في أحاديث كثير من الناس ، سواء في الأمور الاجتماعية ، أم الاقتصادية ، أم السياسية ، ولأنها ـ أي الأفكار المعلَّبة ـ تُستَخدَمُ في التّحليل وإصدار الأحكام ، كما تستخدم في فهم المشاكل وحلِّها ، فإنه يترتب على كل ذلك بطبيعة الحال مواقف وتصرفات خاطئة .
أفكار معلبة في مجال التربية
في المجال الاجتماعي والتربوي قد تَطرحُ بعض مشاكل سلوك الأبناء ، أو تتساءل عن سبل تربيتهم ، فتجد الأكثرين ممن يستمعون إليك ينبرون للنطق بالجوهرة التي تُعبِّر عـن فكرة مُعلَّبةٍ سطحية مُتناقَلَةٍ ، وليقولوا لك : (العلاجُ هو الشِّدَّة والضرب) فانظُرْ كم هو حل سهل! جاهز ! يمكن أن يُعفي كل الباحثين والدارسين والعلماء في مجال التربية وعلمِ نفسِ الأطفال من عنائهم الموصول وأبحاثهم المُضنية ! حلٌّ يدغدغ غريزة العدوان المكبوتة ، ويفتقر لفهم الطبيعة البشرية ، ويَغفلُ النتائج المستقبلية ، ويعتمد الحُلول الآنيّة اللحظية ، ولو كانت المسألة التي تطرحها متعلقة مثلاً بالمرأة أو بالطلبة أو بالموظفين ، فسوف تسمعُ أيضاً حلولاً نابعة عـن أفكار مُعلَّبة تشبه حَلَّ مشكلة الأبناء ، أو تنبع من نفس مصدرها .
وأفكار معلبة في السياسة والاقتصاد
وإذا كانت ثمة مشكلة اقتصادية كالفقر مثلاً أو المديونية أو الكساد أو ما إلى ذلك ، وجدتَ لدى البعض تفسيراً جاهزاً فوراً ، فقد يقولون لك إن سبب كل بلاء هو الفساد ، مع أن مثل هذه الجوانب الاقتصادية أعمق وأعقد من أن تنتجَ عن سبب واحد ، فثمة دائماً عوامل متعددة ، وأسباب مترابطة ، وظروف مجتمعة ظاهرة وخفيّة تؤدي إلى ظاهرة ما .
أما إذا كان الحديث في مجال السياسة ، فسوف ترى كيف أن الكثيرين يفسرون كل حدث من منطلق فكرة واحدة مُعلَّبة هي فكرة (المؤامرة) ، وهي فكرةٌ جاهزةٌ تُقدِّم فعلاً أسهل التفسيرات، وأكثرها قدرة على إلقاء اللوم على الآخر ، وإعفاء الذات من المسؤولية .
وفي المجال الاجتماعي
تستمع أحياناً إلى أحاديث وحوارات في المجالس أو في برامج التلفزيون تبحث في العادات والتقاليد ، فينبري المتحدث للتأكيد على (ضرورة المحافظة على العادات والتقاليد في مجتمعنا) ، ويجري الآخرون جَريهُ في هذا الحديث ، أو في هذا النمط من التفكير ، لأنه يقوم علـى فكرة جاهزة كثيرة التداول ، يرددها حتى المثقفـون والكُتّاب . ويبدو أن أحداً منهم لم يتوقف عندها ، ليعلم أن مجرد تداول هذه العبارة أو الفكرة لا يعني صِحتّها . فبعض العادات تكون أصلاً معوقة للإنتاج ، أو عقبة في سبيل التطور ، وبعضها يكون قد نشأ في ظِلِّ نمطٍ من الحياة يتناسب معه ، ثم اختفى ذلك النمط ، وبقيت العادات قائمة . فالاحتفال بالمناسبات السعيدة لأيام وليالٍ طويلة مثلاً كان يناسب نمط المجتمع الزراعي الذي كان يقاس فيه الزمن بالفاصل بين الموسم والآخر ، ولم يعد يناسب المجتمع الذي يرغب في أن يكون مُنتجاً مادامَ الوقت عنصراً أساسياً في العمل والانتاج ، وله مقاييس تختلف عمّا كان سائداً في أيام خَلَتْ .. وعلى ذلك قِسْ العادات المتعلقة بالعزاء والولائم وتبادل الزيارات ، وسواها .
الأفكار المُعلَّبةُ اختزالٌ
وأُحاديةٌ وتعطيلٌ للتّفكير
وبمقدور المرء ، لو تتبع موضوع الأفكار المُعلَّبة التي يتبناها الكثير من الناس ، أن يأتي بمئات الأمثلة على مجالات استخدامها ، وأن يلاحظ ما يُستخدم فيها من أُحادية في النّظرة ، ومن اختزال للأشخاص والأحداث والأشياء في جانب واحد من جوانبها الكثيرة المتعددة ، على نحو لا تحتمله مسائل الحياة المعقّدة المتداخلـة المتشابكة ، بما فيها من ثوابت ومتغيرات ، وتأثيرات متبادلة ، وقواعد واستثناءات وتناقضات ومفارقات وأعماق وآفاق .
إن استخدام الأفكار المعلبة أو التّأثر بهـا أو تبنّيها ، هـو نمط مـن إعطاء الآخرين ـ أحياءً وأمواتاً ـ تفويضاً مطلقاً بالتّفكير نيابة عنا ، كما أن اللجوء لمثل هذه الأفكار الجاهزة شكل من أشكال تعطيل الدماغ ، وإراحته من مشقة التفكير والتحليل والتمحيص .
اشارتان قصيرتان
لقد بقيت إشارتان لا بُدَّ من ذكرهما ، أولاهُما : أن الأغذية المُعلَّبة تحمل عادة تاريخ انتهاء صلاحيتها ، أما الأفكار المعلّبة فلا تحمل مثل هذا التاريخ ، مـع أنها كثيراً مـا تكون ذات صلاحية منتهية ..! وثانيهما : أن الأغذية المعلبة يَغلُبُ أن تضاف إليها مواد حافظة ، وهذا هو الحال بالنسبة للأفكار المعلبة أيضاً ، فثمة أنواع شتّى من المواد الحافظة التي تضاف إليها : وما التقديس ، والخطـوط الحُمْرُ ، وأنواع الإرهاب الفكريّ ، إلا نمط مـن محاولة حفظ تلك الأفكار حتى لا تتبدّل
تعليقات
إرسال تعليق