د.سائد دبابنة- إن المشاريع الكبرى ذات فائدة عظيمة, مشروطة بالواقعية والتخطيط السليم, ولكن تلك المشاريع قد تنقلب إلى كوارث إن لم نتمعن بشكل عقلاني وعلمي, من دون عواطف أو خداع للذات, في كل ما يتعلق بها من أمور. لقد دعا جلالة الملك في الأمس القريب الحكومة لوضع خططها وبرامجها وإنجازاتها أمام الرأي العام لتعزيز مبدأ الشفافية والتواصل المستمر مع المواطنين, كما دعا إلى إنجازات "حقيقية" تتم ضمن "جداول زمنية محددة".
يؤكد ذلك حقيقة أنه علينا التعامل بشفافية مطلقة مع المشروع النووي برمته, وتوفير المعلومة الصادقة, والتعامل مع البرامج الزمنية الواقعية, والالتزام بها, بعيداً عن التسويف والترحيل إلى المستقبل. إن خيارات الوطن في مصادر الطاقة المختلفة, ومنها الطاقة النووية حتماً, لها استحقاقات ملحة في المستقبل القريب, وهذا يقتضي اتخاذ القرارات بكفاءة وسرعة مبنية على توفير المعلومة الدقيقة, وبغير ذلك, فإن سوء التخطيط له عواقب كارثية.
في هذا الإطار, كنت نوهت في مقالتي السابقة المنشورة في »العرب اليوم« (14/11/2011) إلى أن شركة أريفا علقت أعمالها في إفريقيا الوسطى (منجم باكوما تحديداً), علماً أن هذا المنجم يحتوي على تراكيز لليورانيوم أعلى بكثير مما هو موجود ومعلن في وسط الأردن, وعلى كميات أكبر أيضاً. كما ذكرت في حينه ما أوردته الصحافة العالمية والمتخصصة من أن هناك مراجعة شاملة ستتم, في هذا الشهر الذي نحن فيه الآن, لمشاريع التعدين في ناميبيا وإفريقيا الوسطى وجنوب إفريقيا, في ضوء تأثيرات فوكوشيما. لقد قامت أريفا فعلاً بمراجعة إستراتيجية أشمل لكافة خططها ومشاريعها القائمة, والمستقبلية, وما هو منها قيد التطوير, ليس فقط في مجال تعدين اليورانيوم, بل في كافة مراحل الصناعة النووية ودورة الوقود النووي, إن كان في منشآتها في فرنسا أو بلجيكا أو الولايات المتحدة أو إفريقيا وغيرها, وكان الحافز الأهم لكل ذلك, هو الخسائر الجسيمة التي تكبدتها صناعة أريفا النووية, مما دفعها إلى وقف العمل بالعديد من مشاريعها.
لا يخفى على القارىء أن هذه الأخبار, وما قد تحمله من انعكاسات, تفتح الباب على مصراعيه لنقاش واستنتاجات واسعة وحادة على الصعيد الأردني المحلي, وفي أكثر من جانب مرتبط بالمشروع النووي; لكن, وتجنباً للتشتت, سأبدأ في مقالتي هذه بالحديث عما يهمنا التركيز عليه كأولوية هنا, ألا وهو مشروع تعدين اليورانيوم العتيد.
انتقد البرلماني الفرنسي مارك جوا بشدة استثمار أريفا الضخم في المناجم الإفريقية, وكان من ضمن ذلك منجم تريكوبي في ناميبيا, الذي لا زالت تتضارب الأنباء الواردة حول إما تعليق العمل به, أو في أحسن الأحوال إبطاء العمل مع دخول المنجم حالة جديدة من عدم اليقين بسبب إنخفاض التراكيز, وبالتالي إنخفاض الاحتياطي المتوقع. لقد تكرر ذكر هذا المنجم محلياً كدليل على "جدوى" المشروع الأردني, حتى بدون توفر دراسة جدوى لمشروعنا! لقد بررت أريفا قراراتها بأن الارتفاع المؤقت في أسعار اليورانيوم العالمي عام 2007 شجع الشركة للاقدام على توسيع عملياتها, إلا أن الهبوط في الأسعار الذي سبق فوكوشيما, والهبوط الإضافي الذي أعقب فوكوشيما, أديا إلى خسائر طائلة في مشاريع الشركة التعدينية, تضاف إلى الخسائر الأخرى الناجمة عن تباطؤ الطلب العالمي على الطاقة النووية عموماً بعد الحادث الياباني. غير أن البرلماني الفرنسي أضاف أسباباً أخرى علينا التمحيص بها لدلالتها. لقد بالغت أريفا, حسب النائب جوا, في تقدير حجم الاحتياط من اليورانيوم في تريكوبي, مما ساهم, وبعد انكشاف الواقع, في الوصول إلى الوضع الراهن. ألا نبالغ نحن كثيراً جداً, وكما أوضحت وفصلت في مقالاتي السابقة, في تقدير كميات اليورانيوم القابلة للتعدين لدينا?! إن تجميد العمل بمنجم باكوما في إفريقيا الوسطى يعتبر مثالاً مهما بالنسبة لنا, لاحتواءه على تراكيز لليورانيوم أعلى بكثير من منطقة وسط الأردن. أعود لأكرر: لقد كانت هيئة الطاقة الذرية الأردنية تستخدم, وبشكل دائم, وحتى وقت قريب جداً, المناجم الإفريقية كأمثلة على "جدوى" مشروع التعدين في الأردن! ووقعت إتفاقية تعدين, بدلاً من الإستكشاف, مع شركة أريفا من دون الوصول, وحتى الآن, إلى دراسة جدوى لعملية التعدين!
أود هنا التذكير, ولأجل المقارنة, أن هناك مبالغات كبيرة في كميات اليورانيوم المعلنة في وسط الأردن, وأن هناك أنصاف حقائق مضللة يتم الترويج لها في الإعلام وأمام النواب وأصحاب القرار, كذلك يقتضي الحال التذكير بأن فكرة مشروعنا بدأت أيضاً عام 2007 في قمة الإرتفاع العالمي للأسعار, غير أن الإنخفاض السريع الذي تبع ذلك, حتى قبل فوكوشيما, وما توفر لدينا محلياً من قياسات غير مشجعة لتراكيز اليورانيوم ترفع تكاليف الاستخراج, دفعنا للتنبيه مبكراً, ومن دون استجابة, ومنذ عام 2009 من خلال ورقة علمية متوفرة لمن يطلبها, إلى المخاطر المصاحبة للمشروع. لقد كان الإستمرار في بعض المناجم ذات التراكيز الأعلى في إفريقيا مبرراً, نوعاً ما, مقارنة بالوضع في الأردن. أما الآن, وقد وصلت مشاريع أريفا الإفريقية إلى ما وصلت إليه, ولأسباب أقل ما يقال عنها انها تنطبق على مشروع التعدين لدينا, فهل سيقود ذلك إلى بعض الواقعية في التعاطي مع المشروع الأردني? أم هل سنستمر في التعامل إعلامياً مع الموضوع بمعزل عن كافة المعطيات العالمية, ونستمر في شراء الوقت, وفي التسويف اللانهائي, وترويج الأرقام الوهمية, وكأن شيئاً في إفريقيا لم يكن? ألم يكن مفترضاً, وحسب الإعلانات السابقة, أن نكون الآن (2011) قد بدأنا إنتاج ألفي طن من الكعكة الصفراء سنوياً?! ألم يكن مفترضاً, وحسب ما أشيع إعلامياً, أن نكون رفدنا الخزينة بمئات الملايين من الدولارات في العام من بيع اليورانيوم?! ليس من المعقول, أو المقبول, بعد الآن أن نسمع أو نسمح لأحد مفوضي هيئة الطاقة الذرية أن يعطينا محاضرة عن جدوى استخراج اليورانيوم اليوم, مستخدماً الأسعار القديمة المرتفعة لعام 2007! ثم يحدثنا عن الشفافية وتثقيف الجمهور! المطلوب من نوابنا أن يقتدوا بالنائب الفرنسي مارك جوا, ويتابعوا بأسلوب علمي, كما تابع جوا, التفاصيل والمعطيات التي طرحت, وما تزال تطرح عليهم من قبل هيئة الطاقة الذرية, إنقاذاً للوطن.
إن المليارات من الخسائر المتحققة قد تتحملها أريفا بدعم من الحكومة الفرنسية, فهل تتحمل مشاريعنا مثلها, أو حتى جزءاً منها?! هل نقبل أن يقال لنا ان أريفا هي التي ستخسر?! ماذا عن قراراتنا الاستراتيجية وخياراتنا النهائية في مجال الطاقة التي لا تحتمل التأجيل? أليس من المفترض أن تمول أرباح بيع اليورانيوم المزعومة تكاليف بناء المحطات النووية الأردنية حسب الخطط المعلنة? فهل يتحرك نوابنا للتقصي عن كل ما سمعوه ويسمعوه, وصولاً للحقيقة?
إني وفي هذا المقام أدعو فقط, وببساطة, إلى استكمال الدراسات بشكل علمي وواقعي, وبشفافية عالية, وبإنجاز سريع. وأدعو للتوقف عن الضجيج الإعلامي المضلل حول الموضوع; فإن ثبتت جدوى الإستثمار في التعدين إقتصادياً وبيئياً, فعلينا به, وإن ثبتت المخاطر المرافقة له, وكانت أكبر من المنافع إن وجدت, فعلى أصحاب القرار أن يتخذوا قرارهم!
إن الشفافية المزعومة في برنامجنا كانت تقتضي الإعلان عن هذه الأخبار, تماماً كما تم التسرع بالتغني بقرار البرلمان الياباني الذي حمل أخباراً جيدة, ظاهرياً, حول تمرير الاتفاقية مع الأردن. رغم سروري بذلك القرار, إلا أن الواقعية والحذر يقتضيان التمعن بالحيثيات وكامل النقاشات التي رافقته, كي نعزل البعد الفني عن السياسي والمالي, ونعرف موقعنا بواقعية, ولي في ذلك مقال آخر قادم. كذلك تقتضي الشفافية الإعلان عن تفاصيل العروض المالية للمفاعلات الأربع التي تم فتحها مؤخراً, وماذا تشمل. هل تتفق مع ما يتم إعلانه عن الكلف? ما نسبة الارتفاع عن ما يتم إعلانه? ما هي تكاليف التأمين وكافة التفاصيل الأخرى التي يستفسر عنها الناس, ويجب أن يعرفوها ويعرفها نوابهم?
أخيراً, لقد حذر كثير من الخبراء العالميين, ولوقت طويل, ومن غير طائل, من أن اقتصاديات مشروع تريكوبي مثلاً, وهو أفضل من مشروع وسط الأردن, كارثية. إن من واجبي, وواجب غيري, التنبيه فيما يخص مشاريعنا محلياً; فهل من يقرأ? هل من يتعظ? أم سنبقى نضلل أنفسنا ونبني مشاريعنا الكبرى في هواء أو فراغ الوهم?
الأردن غني, لكن علينا أن نستيقظ, ونعرف أين وفي ماذا نستثمر!
فأين نوابنا من ذاك النائب الفرنسي الذي قرع الجرس?!
- See more at: http://www.ammonnews.net/article.aspx?articleno=105521#sthash.Oz87gMvu.dpuf
تعليقات
إرسال تعليق