د. سائد دبابنة - ها هو عام 2012 يكاد ينقضي عنا، وما زلنا نذكر وعوداً قطعت، وآمالاً سراباً أشيعت، أن 2012 سيكون عام تحقيق الأحلام الصفراء بلون كعكة أكسيد اليورانيوم، والذي كان ليجلب لميزانيتنا المرهقة أكثر من المليار سنوياً ليصل حتى 40 ملياراً، ويسهم في بناء مفاعلاتنا الموعودة ، فأين نحن اليوم من كل ذلك؟
غادرتنا قبل شهر شركة أريفا التي تعاقدنا معها لاستكشاف وتعدين اليورانيوم، من دون أن تقدم لنا دراسة للجدوى الاقتصادية، ومن دون أي إعلان واضح عن سبب المغادرة، إلا بيانين مبهمين أحدهما من هيئة الطاقة الذرية، والآخر من أريفا، فيهما ما بين السطور أكثر بكثير مما هو فوقها! فما الذي حدث؟ أجد نفسي متفقاً مع رئيس هيئة الطاقة الذرية في أن اليورانيوم سلعة استراتيجية، لكن وكونها بهذا الوصف، فإن الشركات العالمية وما تمثل من قوى كبرى ستتسابق وتستخدم نفوذها السياسي والاقتصادي، وإن لزم الأمر العسكري، للسيطرة على مصادر الطاقة إن كانت مجدية وحقيقية، ولا تتركها هكذا بسهولة. كنت ذكرت في مقالاتي السابقة تفاصيل كثيرة عن انسحاب شركات تعدين اليورانيوم من الأردن في وقت مبكر جداً قبل أريفا، ومنها شركة ريو تنتو العملاقة المتخصصة، التي لا تنتج مفاعلات نووية، وليس لديها سبب آخر للتسويف والانتظار مثل أريفا!
قبل انسحابها من المشروع الأردني بأسبوع، تعاقدت أريفا مع شركة EDF الفرنسية العملاقة المتخصصة في توليد ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية، تلتزم أريفا بموجب العقد بتزويد EDF بكمية ضخمة من اليورانيوم تبلغ 30 ألف طن، وهذا التعاقد يعتبر الأضخم في تاريخ أريفا. جاء هذا الالتزام رغم وبعد إيقاف أريفا أعمالها لتعدين اليورانيوم في عدة مناجم مشكوك بجدواها الاقتصادية، ومنها بعض المناجم في إفريقيا تعتبر أفضل، من ناحية نوعية وتركيز الخام، من المنجم المفترض في وسط الأردن والذي تأخر انسحاب أريفا منه. تعمل أريفا بالتأكيد على أسس تجارية، وتقيم استثماراتها باستمرار، وكنتيجة لاستمرار انخفاض أسعار اليورانيوم عالمياً، والتي هبطت دون حاجز 45 دولاراً للباوند، لجأت الشركة إلى التخلي عن مشروعات التعدين ذات التراكيز المنخفضة، وركزت جهدها في مناجم ذات تراكيز أفضل بكثير في كازاخستان وكندا واستراليا وغيرها، تمكنها فعلاً من الوفاء بالتزاماتها. للمزيد من الإيضاح، ففي وسط الأردن لم يتجاوز معدل التركيز 100 جزء بالمليون، حسبت على أسس غير واقعية تخالف الاتفاقية المبرمة مع أريفا لأجل تضخيم الكميات، وفي منجم تريكوبي في ناميبيا وصل معدل التركيز إلى أكثر من منجم وسط الأردن الافتراضي بشكل واضح، ورغم ذلك جمدت أريفا العمل به قبل عام تقريباً لعدم جدواه الاقتصادية (نقلت أريفا كمية بسيطة من اليورانيوم منه حديثاً)، أما منجم موينكوم في كازاخستان فمعدل التركيز فيه أعلى بكثير ويصل إلى 750 جزءا بالمليون، وتتجه أريفا لذلك إلى زيادة إنتاجها منه ليصل إلى 4000 طن سنوياً. جدير بالذكر هنا أن تركيز اليورانيوم في مناجم كندا يبلغ أضعاف تركيز منجم موينكوم. يتضح مما سبق أن أريفا حريصة على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية لتزويد اليورانيوم، وحريصة على الاستحواذ على المناجم المنتجة والواعدة، ولكنها بالتأكيد مهتمة بالجدوى الاقتصادية للاستخراج والتعدين، ونوعية الخام وتركيز اليورانيوم فيه هو من أهم عوامل تحديد تلك الجدوى. فلا غرابة عندئذ أن تنسحب الشركة الفرنسية، كسابقاتها، من مشروعات غير مجدية ولو بعد تأخير تمليه مصالحها الأخرى. طالعنا رئيس هيئة الطاقة الذرية الأردنية مؤخراً بأخبار عن التدقيق على عمل ونتائج أريفا في الأردن، وهذا جهد مطلوب ومشكور وأشد على يديه، ولكن وفي الوقت ذاته أتساءل، ألم تعلن الهيئة سابقاً، وبفخر، أن قياسات الشركة الفرنسية تمت في مختبرات الهيئة؟! ألم تكن الهيئة والشركة الأردنية الفرنسية تتابعان عمل أريفا؟ فإن لم يكونوا، فماذا كانوا يفعلون؟! أتمنى أن لا يكون هذا التدقيق الجديد وكلفته لغاية حفظ ماء الوجه، ولأجل المزيد من شراء الوقت على حساب قراراتنا وخياراتنا. أتمنى على رئيس الهيئة الإعلان عن نتائج التدقيق الأخرى التي لم تنشر لنقوم بمناقشتها علناً توخياً للشفافية والمصداقية، أتمنى عليه أن يتوقف عن الإعلان عن أن اليورانيوم لدينا يكفينا 150 عاماً من دون سند علمي، وبشكل مضلل من جديد، وقبل أن يتأكد يقيناً من نوعية وكميات اليورانيوم الحقيقية الموثقة، وأن يمتنع عن العودة إلى ذكر أرقام صعدت وهبطت كثيراً في الأعوام السابقة، وعوائد مالية ضخمة موعودة لم نشهد منها شيئاً، حتى فقدت كل تلك الإعلانات المتناقضة مصداقيتها تماماً لدى المواطن الأردني. أتمنى عليه أن لا يعود ليبرر انخفاض التراكيز المعتمدة لتحديد الكميات بانخفاض الأسعار عالمياً! تفسير مناقض للأسس العلمية الصناعية والاقتصادية، مضلل وغير مقبول من رجل مسؤول في مركزه. ألم يكن واجباً رفع التراكيز المقبولة، بدلاً من خفضها لمستويات غير واقعية، للتعويض عن انخفاض الأسعار؟! هل يُعقل أن نقبل بعد الآن بتبريرات مضللة تستخف بعقولنا، لمعطيات خاصة بمشروعات تؤثر في مستقبل الوطن؟
قلت في مقالة سابقة لي إني أدعو فقط، وببساطة، إلى استكمال الدراسات بشكل علمي وواقعي، وبشفافية عالية، وبإنجاز سريع من دون تسويف لا نهائي، والآن أدعو للتوقف عن الضجيج الإعلامي المضلل؛ فلا معنى لتشتيت جهدنا وتضليل مؤسساتنا الدستورية، فواجب أصحاب القرار أن يتخذوا قرارهم من دون إبطاء! أخيراً فعلينا الاتعاظ، وأن لا نلدغ مرتين، فها هو عام 2012 نشهده كعام تسويف، بدلاً من أن يكون عام تسويق كما وُعدنا وُوعد صاحب القرار ! .
تعليقات
إرسال تعليق