إبراهيم كشت - حين يغيب المنهج العلمي ، يغدو أي تفسير لأي ظاهرة مقبولاً ، ويبدو كل حلَّ يُطْرحُ لأي مشكلة معقولاً ، وتصير الخرافة علماً ، والأسطورة حقيقة ، والقول المتناقض مقنعاً ، ومجرد الفرض والتخمين والظنّ يقيناً . ويصبح الدَّجل حكمة ، والشعوذة طِبّاً ، والرواية الخيالية تاريخاً ، ويغدو التنجيم بالأبراج من العلوم الفلكية ، والأمثال الشعبية حقائق علمية ، والآراء الشخصية نظريات نفسية واجتماعية . نعم ، إذا غاب المنهج العلمي ، فَلَكَ أن تقول ما تشاء ، ولك أن تفسّر وتعلل وتحكم وتقيّم كما تشاء، فلا ضوابط ولا قواعد ، ولا حاجة لمنطق أو استدلال ، بل لا حاجة إلى روابط تصل المقدمة بالنتيجة والعلة بالمعلول ، إقفز لأي نتيجة تواتي شعورك (أو لاشعورك) أو رغبتك أو مصلحتك أو أفكارك المسبقة كما تريد ، فلستَ بحاجة إلى حياد أو موضوعية أو تجرد ، أو حتى إلى برهان على شيء .
قُلْ ما تشاءُ ، وليسَ عليك عبءُ الإثباتِ
إذا غاب المنهج العلمي ، جاز لك أن تقول مثلاً إن أسرار المرء وسماته الشخصية وملامح مستقبله ، تظهر في الثمالة التي يتركها في فنجان القهوة بعد شربها . وأن الخطوط التي يرسمها البُنُّ على جوانب الفنجان تُخبر عن مالٍ يأتيه ، وسفر ينتظره، وخصم يتربّص به. ولك أن تقول أن فلانة محترفة في فتح الفنجان (أو قراءته ...!) وأن كل ما تخبركَ به صحيح . وليس مطلوباً منك بطبيعة الحال أن تفسر الرابط بين حثالة البُن وصفات الشخص ومستقبله ، أو السبب الذي يربط شكلاً عشوائياً رسمته القهوة على الزجاج الداخلي للفنجان بما ينتظر المرء في مستقبله ..! والشيء ذاته يمكن أن يقال عن معرفة سمات الشخص وأهوائه ومزاجه ، والتنبؤ بما تحمله الأيام والأعوام القادمة له من خلال أحرف اسمه وصلتها بالأرقام ..؟ أو من خلال النظر في بلورةٍ ، أو من خلال موقع كوكب من باقي النجوم ..! في غياب المنهج العلمي ، يمكنك أن تقول كلَّ ذلك ، وستجد آلافاً من الناس يصدقونك ، ويؤمنون بما تقول ، ويتوافدون إليك، بل يدفعون لك المال لقاء ما نفعتهم به ، وقد أعفوكَ جميعاً من مشقة خطوات البحث العلمي، ورفعوا عن عاتقك عبء الإثبات ..!
ولَكَ أَنْ تشخّصَ الأَمراضَ ، وتَصِفَ الأدويةَ
حين يغيب المنهج العلمي ، يغدو من حقك أن تَطْلُعَ على الناس بنبتة أو عشبة أو بذرة ، وتجزم أنها تشفي من مرض عضالٍ ، حارَ جهابذة العلماء والأطباء على مرِّ السنين في علاجه . ولك أن تصف أي خلطة من النباتات والزيوت عجيبة الأسماء لعلاج أي مرض ، تُشخّص الداء وتصف الدواء في لحظة ، وتقول بلهجتك الواثقة إن نتيجته مضمونة مائة في المائة ، وإنه مجرّب ..! مع أنه لو اجتمع عشرة من أكبر أطباء (مايو كلينك) وطُرِحَ عليهم أمر ذلك المرض لما استطاعوا الجزم بتشخيصه ووصف العلاج له والتأكيد على شفائه على نحو ما تفعل . وماذا عليك وقد أعفاك الآلاف ممن يستمعون إليك ويصدقونك من أن تتبع المنهج العلمي ؟ وتنازلوا لك عن الشروط التي ينبغي أن تتضمنها التجربة ليُستدل بها ، وأبرأوك من احتمال الخطأ .
حين تَروجُ الخرافةُ
إذا غاب المنهج العلمي ، رأيتَ أنّ كتبَ التنجيم ، والرجم بالغيب ، وتحليل الشخصيات والعلاقات على غير هدى من العلم ، ووصف العلاجات بالخلطات والأعشاب والزيوت ، هي الكتب الأكثر مبيعاً ، وأن برامج الفضائيات التي تتخذ من هذه الخرافات والخزعبلات موضوعاً لها ، هي أكثر البرامج استقطاباً للمشاهدين ، وأكثرها تلقياً للاتصالات الهاتفية والرسائل الخلوية ، حتى أن الاتصالات تزدحم على مقدم البرنامج ، فيضطر للإسراع في الإجابة ، وطلب الاختصار من المتحدثين ، الذين يكيلون له الثناء ويبجِّلونه ، أكثر مما يجلّون ويمتدحون عالماً فذاً ، أو طبيباً متميزاً ، أو فيلسوفاً عميق الفكر .
قناعة ونمط تفكير
إن المسألة المهمة في موضوع المنهج العلمي ، والتي كثيراً ما نغفل عن الانتباه إليها ، هي أن ذلك المنهج ليس مجرد طريقة ينبغي إتباعها للوصول إلى الحقيقة، وليس محض إطار فكري يعمل الذهن في نطاقه ، ولا مجرد خطوات للبحث السليم . انه -أي المنهج العلمي - إضافة لذلك كله (ثقافة) ، أعني أنه اعتقاد واقتناع ونمط تفكير يلقى الاحترام أو الإهمال ، وتُضفى عليه القيمة أو اللامبالاة ، وتتأثر هذه الثقافة المتعلقة بالمنهج العلمي بالتربية والتعليم ، كما تتأثر – بطبيعة الحال - بالبيئة ، بكل ما فيها من معتقدات وقيم وأنماطٍ من التفكير .
وزعمُنا هذا ، بأن المنهج العلمي جزء من الثقافة ، تدلل عليه بعض تصرفاتٍ نلحظها ونلمسها ، فقد عرفنا بعض من حازوا على شهادات علمية متقدمة ، وقضوا في الدراسة سنين عدداً ، ونالوا قسطاً من دراستهم وتخصصهم في بلدان متقدمة ، لكن ذلك كلّه لم يثنهم عن البحث عن حظوظهم ومعالم مستقبلهم عند العرافين والعرافات ، وبذل المال للمشعوذين ، واللجوء إلى الخلطات التي تسمى أدوية ، والتلذذ بالإصغاء إلى الخرافة وترديدها ، فقد غلبت ثقافتُهم دراستَهم وتخصصَهم ، لأن للثقافة دائماً جذورها اللاشعورية ، وامتداداتها الوجدانية العصيّة على الزوال .
قُلْ ما تشاءُ ، وليسَ عليك عبءُ الإثباتِ
إذا غاب المنهج العلمي ، جاز لك أن تقول مثلاً إن أسرار المرء وسماته الشخصية وملامح مستقبله ، تظهر في الثمالة التي يتركها في فنجان القهوة بعد شربها . وأن الخطوط التي يرسمها البُنُّ على جوانب الفنجان تُخبر عن مالٍ يأتيه ، وسفر ينتظره، وخصم يتربّص به. ولك أن تقول أن فلانة محترفة في فتح الفنجان (أو قراءته ...!) وأن كل ما تخبركَ به صحيح . وليس مطلوباً منك بطبيعة الحال أن تفسر الرابط بين حثالة البُن وصفات الشخص ومستقبله ، أو السبب الذي يربط شكلاً عشوائياً رسمته القهوة على الزجاج الداخلي للفنجان بما ينتظر المرء في مستقبله ..! والشيء ذاته يمكن أن يقال عن معرفة سمات الشخص وأهوائه ومزاجه ، والتنبؤ بما تحمله الأيام والأعوام القادمة له من خلال أحرف اسمه وصلتها بالأرقام ..؟ أو من خلال النظر في بلورةٍ ، أو من خلال موقع كوكب من باقي النجوم ..! في غياب المنهج العلمي ، يمكنك أن تقول كلَّ ذلك ، وستجد آلافاً من الناس يصدقونك ، ويؤمنون بما تقول ، ويتوافدون إليك، بل يدفعون لك المال لقاء ما نفعتهم به ، وقد أعفوكَ جميعاً من مشقة خطوات البحث العلمي، ورفعوا عن عاتقك عبء الإثبات ..!
ولَكَ أَنْ تشخّصَ الأَمراضَ ، وتَصِفَ الأدويةَ
حين يغيب المنهج العلمي ، يغدو من حقك أن تَطْلُعَ على الناس بنبتة أو عشبة أو بذرة ، وتجزم أنها تشفي من مرض عضالٍ ، حارَ جهابذة العلماء والأطباء على مرِّ السنين في علاجه . ولك أن تصف أي خلطة من النباتات والزيوت عجيبة الأسماء لعلاج أي مرض ، تُشخّص الداء وتصف الدواء في لحظة ، وتقول بلهجتك الواثقة إن نتيجته مضمونة مائة في المائة ، وإنه مجرّب ..! مع أنه لو اجتمع عشرة من أكبر أطباء (مايو كلينك) وطُرِحَ عليهم أمر ذلك المرض لما استطاعوا الجزم بتشخيصه ووصف العلاج له والتأكيد على شفائه على نحو ما تفعل . وماذا عليك وقد أعفاك الآلاف ممن يستمعون إليك ويصدقونك من أن تتبع المنهج العلمي ؟ وتنازلوا لك عن الشروط التي ينبغي أن تتضمنها التجربة ليُستدل بها ، وأبرأوك من احتمال الخطأ .
حين تَروجُ الخرافةُ
إذا غاب المنهج العلمي ، رأيتَ أنّ كتبَ التنجيم ، والرجم بالغيب ، وتحليل الشخصيات والعلاقات على غير هدى من العلم ، ووصف العلاجات بالخلطات والأعشاب والزيوت ، هي الكتب الأكثر مبيعاً ، وأن برامج الفضائيات التي تتخذ من هذه الخرافات والخزعبلات موضوعاً لها ، هي أكثر البرامج استقطاباً للمشاهدين ، وأكثرها تلقياً للاتصالات الهاتفية والرسائل الخلوية ، حتى أن الاتصالات تزدحم على مقدم البرنامج ، فيضطر للإسراع في الإجابة ، وطلب الاختصار من المتحدثين ، الذين يكيلون له الثناء ويبجِّلونه ، أكثر مما يجلّون ويمتدحون عالماً فذاً ، أو طبيباً متميزاً ، أو فيلسوفاً عميق الفكر .
قناعة ونمط تفكير
إن المسألة المهمة في موضوع المنهج العلمي ، والتي كثيراً ما نغفل عن الانتباه إليها ، هي أن ذلك المنهج ليس مجرد طريقة ينبغي إتباعها للوصول إلى الحقيقة، وليس محض إطار فكري يعمل الذهن في نطاقه ، ولا مجرد خطوات للبحث السليم . انه -أي المنهج العلمي - إضافة لذلك كله (ثقافة) ، أعني أنه اعتقاد واقتناع ونمط تفكير يلقى الاحترام أو الإهمال ، وتُضفى عليه القيمة أو اللامبالاة ، وتتأثر هذه الثقافة المتعلقة بالمنهج العلمي بالتربية والتعليم ، كما تتأثر – بطبيعة الحال - بالبيئة ، بكل ما فيها من معتقدات وقيم وأنماطٍ من التفكير .
وزعمُنا هذا ، بأن المنهج العلمي جزء من الثقافة ، تدلل عليه بعض تصرفاتٍ نلحظها ونلمسها ، فقد عرفنا بعض من حازوا على شهادات علمية متقدمة ، وقضوا في الدراسة سنين عدداً ، ونالوا قسطاً من دراستهم وتخصصهم في بلدان متقدمة ، لكن ذلك كلّه لم يثنهم عن البحث عن حظوظهم ومعالم مستقبلهم عند العرافين والعرافات ، وبذل المال للمشعوذين ، واللجوء إلى الخلطات التي تسمى أدوية ، والتلذذ بالإصغاء إلى الخرافة وترديدها ، فقد غلبت ثقافتُهم دراستَهم وتخصصَهم ، لأن للثقافة دائماً جذورها اللاشعورية ، وامتداداتها الوجدانية العصيّة على الزوال .
تعليقات
إرسال تعليق