يحكى أنّ رجلاً أحبَّ الصيد حبًّا جمًّا، فقرَّر أن يصنع قوسًا بيده وأن يشدَّ عليها وترًا، ويصنع أسهمَ الصيد، فبينما هو يسير إذ أبصر شجرة، فقال في نفسه: "ينبغي أن تكونَ هَذه قوسًا"، فجعل يتعهدها ويرعاها، حتى إذا أدركت، قطعها وجففها وبدأ بصناعة القوس، قرُب القوسُ من الانتهاء، فقد استغرق صُنعُه أشهرًا، وأخيرًا وبعد جهد طويل، وجَد قوسَه قد انتهى، وقد حان الوقتُ لتجربته.
شدّ الكُسَعِيّ الوترَ على قوسه وتأبَّطه وخمسةً من السهام التي صنع، وحمل قربةً للماء معه وسار في الصحراء، حيث كان يرى حمُر الوحش قديمًا، وكان يتمنَّى لو أنّ بحوزته قوسًا وسهامًا.
سار في البادية من وادٍ لوادٍ، حتى وجد قطيعا من حمُر الوحش ترتعُ في الوادي، اقترب قليلاً، أعاد شدّ وتره على قوسه، وسدَّد وقارب إلى حمار من تلك الحمُر، أطلق سهمَه وهو يظنّ أنه سيُردي أحدَها صيدًا يأكله وبنوه.
لم يشعر الكُسَعِيُّ أنّ أحدًا من الحمُر قد أصيب، شعر بالأسى وتملَّكه الحزنُ وأُصيب بخيبةِ الأمل، لكنّ الحمُر لم تشعرْ بوجوده ولم تهرع هاربةً، شدّ قوسه ثانيةً وسدَّد إلى حمارٍ آخرَ، ومثل المرّة الأولى لم يشعر أنه أصاب ولم تهلع ولم تنفر عندما رماها، كرَّر الكُسَعِيّ ذلك مرارًا حتى أنهى رمْيَ أسهمه الخمسة كلّها، تملّكه الغضبُ والحزنُ، كيف لم يُصبْ ولو مرةً من هذه المرات الخمسة؟!
فعمد إلى قوسه الذي أمضى أشهرًا في تحضيره وصنعه فكسره؛ علّه ينفث همَّه ويُذهب غضبَه.
هدأ غضبُه قليلاً، ثمّ قال في نفسه: يجب أن أسيرَ إلى الوادي لأرى ما حلّ بأسهمي فما عادتي أن أخطئَ في رمْي السهام، قام من فوره فرأته الحمُر فهرعت موليةً هاربةً، نزل مسرعًا إلى حيث أطلق سهامَه، ماذا وجد؟
صرخ قائلاً: "يا إلهي، إنها خمسة من حمُر الوحش تسبح في دمائها، وقد اخترقتها السهام"!!
عاد إليه رشدُه، وندِم ندمًا لا يعادلُه ندمٌ، فقد كسر قوسَه الذي أمضى في صنعه أشهرًا عديدة.
أرَّخ وحفظ أهلُ الأمثال هذه الواقعةَ، فقالوا: ندم ندامةَ الكُسَعِيّ، وذكره الفرزدق في شعره:
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لمَّا غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ
تعليقات
إرسال تعليق