في 13 سبتمبر/أيلول عام 2003 تعرض بائع الأثاث في واشنطن جاسون بادجيت، البالغ من العمر 31 عاماً، إلى الضرب والسرقة بعد خروجه من إحدى حانات الكاريوكي، على يد رجلين. نجا جاسون من الهجوم الشرس، لكنه تُرك فاقداً للوعي، وأصيب بارتجاج حاد. بعد ذلك بقليل، لاحظ أن رؤيته تغيرت كما أدرك أنه قد طور قدرات رياضية ملحوظة.
بدأ بادجيت في رؤية الأنماط في كل ما نظر إليه، كما بدأ في رسم الأشكال الهندسية المعقدة والشبكات والكسيريات. وشرح لاحقاً "أرى أشكالاً وزوايا في كل مكان في الحياة الواقعية. إنه أمر شديد الجمال".
بدا أنه يفهم الطبيعة الرياضية للكون بداهةً، على الرغم من أنه لم يتلق تمريناً أكاديمياً سابقاً، إذ إنه ترك الجامعة قبل أن يتم دراسته. وقرر بادجيت أن يعود للجامعة مرة أخرى لدراسة نظرية الأعداد.
يعد بادجيت حالة مكتسبة من متلازمة الموهوب، وهي الحالة التي تظهر فيها قدرات عقلية مذهلة جراء نوع من التلف الدماغي. ولم يتم التعرف إلا على عدد قليل من هذه الحالات – أقل من 100 حتى تاريخه-، إلا أن وجودهم قد دفع العلماء للتفكير بأن هناك عبقرياً مختفياً بداخل كل منا، كما دفعهم للبحث عن طرق لإطلاق هذه الإمكانيات والقدرات الحبيسة.
نادرة لكن موجودة
ظهرت متلازمة الموهوب أمام أعين العامة عن طريق تجسيد داستن هوفمان للمتوحد الموهوب رايموند بابيت في فيلم رجل المطر عام 1988. يعتقد الباحثون أن واحداً على الأقل من كل 10 مصابين بالتوحد يمتلك قدراً من الموهبة. إلا أن متلازمة الموهوب المكتسبة شديدة الندرة.
وقال دارولد تريفيت، الطبيب النفسي الذي قضى ما يزيد على 50 عاماً في دراسة متلازمة الموهوب "تتبعت حالات متلازمة الموهوب المكتسبة التي مرت بي ووصلت إلى 70 حالة حتى الآن". كما تابع "يعتمد ذلك الرقم على الناس الذين يكتبون إلي، أو الأطباء الذين يكتبون لي عن مرضاهم. لم توثق الأدبيات العلمية سوى 25 حالة من هذه الحالات حتى الآن".
تختلف مسببات متلازمة الموهوب المكتسبة بشكل كبير، والنتائج أيضاً. هناك، على سبيل المثال، حالة توني سيكوريا، جراح العظام من نيويورك، الذي اكتشف شغفاً بعزف البيانو بعدما صعقه البرق، أو تومي مكهيو الذي بدأ في الرسم وكتابة الشعر بعد إصابته بالسكتة الدماغية. في الوقت ذاته، وثَّق باحثون بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو ظهور الإبداع البصري والموهبة الفنية لدى مرضى الخرف الجبهي الصدغي.
ويقول تريفيت "إن القدرة الأكثر شيوعاً هي الفن، تليه الموسيقى. لكنني قد رأيت حالات تسبب التلف الدماغي لأصحابها في اهتمامهم المفاجئ بالرقص أو لعبة معالج الكرة والدبابيس".
التفسير العلمي
ويفسر تريفيت ما يحدث من ناحية المرونة العصبية (كيف يستجيب الدماغ للإصابة والخبرات الأخرى). "بعد إصابة الدماغ، يُستخدم جزء آخر من القشرة غير التالفة في الدماغ، ثم تحدث إعادة توصيل للوصلات العصبية مع الجزء غير التالف، وظهور القدرة الكامنة. إنها آلية تعويضية تشمل مناطق كامنة من الدماغ، أو مناطق "سُرقت" وتغيرت وظيفتها".
وعلى الرغم من تعدد أسباب تلف الدماغ، ونتائجه، يشير المسح الدماغي للأشخاص المصابين بمتلازمة الموهوب المكتسبة إلى أنهم يعانون من أضرار مؤكدة ناحية مقدمة الفص الصدغي الأيسر. وهي الملاحظات التي دفعت تريفيت وآخرين للتكهن بإمكانية إيقاظ القدرات الشبيهة بالموهوبين عن طريق التعطيل المؤقت لتلك المنطقة من الدماغ تحت ظروف تجريبية.
وعمل آلان سنايدر، مدير مركز العقل في جامعة سيدني بأستراليا، على اختبار هذه الفكرة. في دراسة صغيرة نُشرت عام 2002، وجد سنايدر وزملاؤه أن تثبيط هذا الجزء من الدماغ باستخدام نبضات مغناطيسية أدى إلى تحسن طفيف في القدرات الفنية والتصحيح الإملائي لدى بعض المشتركين. وأظهرت دراساتهم اللاحقة أن نفس العلاج يمكن أن يؤدي إلى مهارات شبيهة بالموهوبين لدى المتطوعين المشاركين، محسناً قدرتهم –بشكل لافت- على حدس عدد الأغراض التي ظهرت لهم على شاشة الكومبيوتر بدقة، كما أنه قد يقلل من احتمالية استعادة ذكريات خاطئة.
نمتلك قدرات كامنة
وبحسب سنايدر، يمتلك الأشخاص ذوو القدرات الموهوبة ميزة الوصول إلى المعلومات الحسية التي لا تصل عادة للعقل الواعي، بسبب غياب التثبيط القادم من الفص الصدغي الأيسر. يمكن لهذا أن يفسر لم يركز المتوحدون الموهوبون على تفاصيل الأشياء الصغيرة، بدلاً من رؤية الصورة الكبرى، ولم قد يفضي التلف الدماغي والتثبيط التجريبي للفص الصدغي الأيسر إلى "إطلاق" قدرات شبيهة بالموهوبين.
بالتالي يعتقد سنايدر تريفت وآخرون أننا نمتلك قدرات كامنة مثل الموهوبين، يمكن استغلالها بالعديد من الطرق.
يقول تريفيت "أعتقد أن هناك قدرة كامنة بداخل كل منا، بدرجات وأنواع مختلفة"، كما تابع أيضاً "تُوزّع الموهبة بداخلنا بطرق مختلفة. بعضنا يبرع في الرياضة أو الرياضيات، وبعضنا في الفن، والبعض الآخر لا يبرع. البعض موسيقيون، لكن بعضنا جيدون والبعض استثنائيون".
الكشف عن القدرات الكامنة
التحفيز المغناطيسي للمخ هو أحد الطرق المحتملة للكشف عن هذه القدرات الكامنة، ويتابع تريفيت " توجد طريقة أخرى هي التحفيز كيميائياً. نعلم أن الأمفيتامين له آثار نافعة على الذاكرة قصيرة المدى، لكن المشكلة هي أنه يسبب الإدمان. وبنفس الطريقة، تؤدي عقاقير الهلوسة إلى إظهار مختلف الأشياء، بعضها جيد والبعض الآخر ليس كذلك".
يعترف تريفيت بأن الفكرة من السهل إساءة استخدامها واستغلالها. شهدت الأعوام الأخيرة زيادة ملحوظة في استخدام المنشطات التي تحتاج لوصفة طبية مثل الريتالين المستخدم كمنشط دماغي، كما يوجد نمو متزايد في عمليات تنشيط الدماغ التي يقوم بها الشخص بنفسه، إلا أنه لم يتضح إن كان لهذه الإجراءات أثر خارج المختبر أو مخاطر طويلة المدى.
كما يقول تريفيت "يبحث الناس عن ينبوع الشباب في مكان أو آخر. يتوافر عدد من أدوات تحفيز الدماغ التي يمكنك استخدامها بنفسك، ويمكنك شراؤها عبر الإنترنت بأقل من 100 دولار، إلا أنها ليست دقيقة".
وتابع "أؤمن أن هناك قدرة كامنة داخل كل منا، وأعتقد أن بإمكاننا استغلالها بطريقة ما. إلا أنها ليست من النوع العبقري، قد تجد بعض العباقرة، إلا أننا لسنا جميعاً بيكاسو أو رامبرانت، لذا هناك المخاطرة بالأمل الزائف، وهو ما علينا أن نحذر منه".
- هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.
تعليقات
إرسال تعليق