القائمة الرئيسية

الصفحات



لدى المجتمعات القلقة والمحبطة، وكذلك الحال، لأسباب أخرى، عند المجتمعات البدائيّة، ميل إلى استنتاج الكثير انطلاقاً من معطيات قليلة. وفي حال الهزيمة (إذا ما اعتُرف بها) يكون انتهى كلّ شيء ودخلنا عصر الانحطاط. وفي حال النصر، مهما كان صغيراً، تكون بداية غير مسبوقة في التاريخ نفتتح معها حضارة جديدة.
عملاً بالنهج هذا، وهو مثل غير حصريّ، فهم الأصوليّون الأفغان وغير الأفغان أن انتصار المجاهدين على السوفيات مقدّمة لانتصارهم على الأميركيّين. فلم يبق في أذهانهم من تعقيدات انتصارهم إلا أنه انتصار، فيما غاب عن حساباتهم وضع الاتحاد السوفياتيّ يومذاك ودور الصواريخ الأميركيّة والدعم الماليّ العربيّ وغير هذا من عوامل وفّرت الانتصار ذاك. وفي المعنى هذا صار من السهل الاستنتاج أنه ما دام إلحاق الهزيمة بموسكو سهلاً فلماذا لا يكون سهلاً أيضاً إلحاق الهزيمة بواشنطن؟
في هذه النظرة يلوح التاريخ، والكون كذلك، بدايات ونهايات، أما نحن فدوماً في وضع صفريّ لم يسبقه تراكم، ولا شابه تعقيد وتضارب، ولا سكنته خبرة أجيال عديدة سابقة.
من هذا القبيل راج، ويروج، عندنا تعبير جديد بدأ يشقّ طريقه الى الصدارة. إنه "ثقافة المقاومة". الصحافيّون والكتّاب يدعون إليه. حتى السياسيّون يروّجونه بمن فيهم وزير عربيّ طالب بتعليم "ثقافة المقاومة" في المدارس وإدراجها في برامج التعليم.
خير إن شاء الله!؟ بلى، لقد اكتشفنا "ثقافة المقاومة" مع حرب لبنان الأخيرة وبسبب تلك الحرب. قبلها كنا نعيش في ظلام دامس وجهل مطبق. بعدها تكشّفت الحقائق فدخلنا الفجر الجديد ووضعنا يدنا على الكنز المطمور: "ثقافة المقاومة"!
لكنْ ما دام أحد لا يدلّنا الى ماهيّة "ثقافة المقاومة" هذه، فلا بأس أن نلاحظ أنها غامضة غموض "الأمّة" الجديدة التي يدعون إليها دعاة "ثقافة المقاومة" أنفسهم، من غير أن يحدّدوا لنا ما هي هذه الأمّة: عربيّة، إسلاميّة، مصريّة، أردنيّة، لبنانيّة... الخ؟

وفي خضمّ التجهيل السائد هذا، والمتحوّل طريقة متعاظمة النفوذ في الحياة والتفكير، نتساءل:
ما هي مادّة هذه "الثقافة"؟ ما هو، مثلاً، نظام القيم الذي تستند إليه ويرفدها بالمعاني؟ أهو حبّ الموت والشهادة؟ فكرة الأصالة يا ترى؟ الابتعاد عن الثقافة الغربيّة وتلقيح النفس ضدّ "غزوها الثقافيّ"؟
إذا كان هذا هو المقصود، أو ما يشبهه، فليس في الأمر من جديد. ذاك أننا، منذ عشرين سنة على الأقلّ، نأخذ بهذه الدعوات وننشرها بلا كلل ونصبّها في المقاومة والممانعة. ويمكن القول، من ثمّ، أننا لم نكن بحاجة الى الحرب اللبنانيّة الأخيرة، بعذاباتها وأكلافها، من أجل أن نكتشف المكتَشَف (في رواية ريفيّة أن أحدهم شاء الزواج فلفّ العالم كلّه بحثاً عن عروس، ثم عاد واقترن بابنة خالته!).
ثمّ، ما هي أساليب "ثقافة المقاومة" وأشكالها؟ كيف تُكتب الرواية في العهد الجديد الموعود؟ كيف يُكتب الشعر؟ كيف تؤلّف المعزوفات الموسيقيّة (أم أن هذه ستكون ممنوعة، والعلم عند الله؟). طبعاً ما من أحد يدخل في التفاصيل. فـ "ثقافة المقاومة" تُعنى بإنتاج "إنسان جديد"، أما الكيفيّة التي تحكم عمليّة إنتاجه فسرّ من أسرار الخالق!
ثمّ، وما دامت الثقافة تتّصل بالتعليم، فكيف ننقل "ثقافة المقاومة" الى المدارس والجامعات؟ كيف نربّي الأطفال ونعلّمهم تبعاً لـ"ثقافة المقاومة"؟ كيف نعيد صوغ برامج التعليم وعلى أيّ ضوء؟ هل نحذف أبا نواس وابن الرومي ولا نبقي الا على عنترة بن شدّاد؟
هذه جميعاً أسئلة تبقى، مهما انتظرنا، بلا جواب. والسبب أن الذين يتحدثون عن "ثقافة المقاومة" مبهورون بالتعبير الكثيف نفسه انبهار البدائيين بالمطر وإشارات الطبيعة، أو انبهار المحبطين بالهزائم والانتصارات. أما أبعد من ذلك، فليس في الأفق سوى الخواء المطلق.
صحيح أن المقاومات، لا سيما المقاومة الفرنسيّة، سجّلت بعض أعمال أدبيّة رفيعة، لا سيما في الشعر والرسم التشكيليّ. غير أن "ثقافة المقاومة"، في تلك التجارب كلّها، لا تُعدّ شيئاً، كمّاً ونوعاً، قياساً بالثقافة التي أنتجتها المجتمعات المستقرّة والتعليم المستقرّ. ذاك أن الاستقرار، في آخر المطاف، هو الشرط الشارط للثقافة ونموّ فئة المثقفين، الشيء الذي يسري على أرجاء الأرض من غير استثناء.
وربما كان ذا دلالة رمزيّة أن يرحل نجيب محفوظ عن هذه الدنيا فيما تعلو الأصوات المبشّرة بـ "ثقافة المقاومة" وتلك الداعية إليها، كما لو أنها تعلن دخولنا عصر الفوضى المطلقة، العصر الذي لا مكان فيه لأمثال نجيب محفوظ.


حازم صاغية
Reactions

تعليقات