القائمة الرئيسية

الصفحات



ابراهيم كشت - يقوم النقد الموضوعي على أساس فحص الفكرة أو القول أو الموضوع أو العمل ، وتحرّي سلبياته وإيجابياته ، بهدف تقويمه ضمن منهـج علمي منطقي ، والحكم عليه دون تحيّز ، ودون اعتبارات مُسبقة تربط الموضوع أو العمل بصاحبه ، ثُم تُكيلُ له التُّهم ، وتنقد الفكرة من خلال نقد الشخص والتشكيك في نواياه . أما النقد الهدام فيقوم على اعتبارات شخصية ، مبعثها محاولة التقليل من شأن الناجح من قِبَلِ من أخفقوا ، أو منبعها الغيرة والحسد والكيد ، أو دافعها المصلحة الشخصية ، أو منطلقها طبيعة النظرة السلبية إلى الآخر .
مشكلةُ من يوجّهُ النقدَ ومن يَتلقاهُ ..
وموضوع النقد مشكلة حقيقية في مجتمعاتنا ، تستحق الانتباه والتوقف والتفكّر ، فهي مشكلة حين ننظر إليها من زاوية المُرسِلِ ، ومشكلة حين ننظر إليها من زاوية المستقبِل ، أي من زاوية من يُوجِّه النقد ومن زاوية من يتلقاه . إنها مشكلة تتعلق بمفهوم النقد وممارسته ، كما تتعلق بتلقي النقد والتعامل معه ، على نحو يشير إلى ضرورة مراجعة فهمنا للنقد ثم تفعيله كأداة لا غنى عنها للتقدم والتنمية والأصلاح ، لا كأداة للنيل مـن الأشخاص ، أو تكفيرهم ، أو تخوينهم ، أو الطعن في بواعث أعمالهم ، أو اتهامهم في وطنيتهم ، أو المزاودة عليهم ، أو تقزيم أحجامهم ، أو تسخيف أفكارهم ، أو التقليل من شأن إنجازاتهم ، أو تثبيط معنوياتهم وعرقلة انطلاقتهم .
معنى النقد ..
يقال في اللغةِ نَقَدَ الشيء نَقْداً : أي نَقَرَهُ ليختبره ، أو ليميّز جيّده من رديئه 0 وقد رأى الفلاسفة أن النقد هو : فحص وتدقيق فكرة أو مبدأ أو عمل أو ظاهرة ، ومعرفة ما فيها من سلبيات وإيجابيات ، بهدف الحكم عليها حكماً تقويمياً 0 وقد استخدم المفكرون والفلاسفة اصطلاحات مثل (العقل النقدي) أو (الفكر النقدي) أو (التفكير الناقد) ليشيروا إلى العقل الذي لا يُسلّم بالقول أو الفكرة على علاتها دون أن يتساءل عن صحّتها وقيمتها من حيث مضمونها وشكلها .
النقد الموضوعي والنقد الشخصي ..
إن مجرد إطلاعِك صباحاً على فحوى الكثير من مقالات الصحف ، او استماعك مساءً إلى أحاديث المثقفين والعامة ، سيجُّركَ فوراً إلى ملاحظةِ مدى ابتعادنا عن هذا المفهوم الموضوعي للنقد حين نوجهّه ، فحُكمنا على الموضوع أو العمل أو الإنجاز يقوم غالباً على نظرتنا للشخص الذي يرتبط به ذلك الموضوع ، من حيث حُبنا أو بغضنا له ، أو مدى اختلاف منبتهِ أو انتمائه أو جنسه عنا ، أو اختلاف مصالحه عن مصالحنا 0 فإذا بنا ننقد فِكرَهُ أو عمله من خلال الادعاء بأننا دخلنا إلى مكنونات ذاتـه وخلجات ضميره ، فوجدناه خائناً ، أو ذا مصلحة ، أو إمّعةً ، أو تابعاً ، أو منافقاً ، أو ذنباً ، أو مبهوراً بالآخر 0 وربما كانت شدة تأثير العلاقات القبلية والعائلية والشخصية في مجتمعنا وتداخلها وتشعبّها والعيش ضمن نطاقها وتحت وطأة مفاعليها ، قد أورثتنا عدم القدرة على التمييز بين الشخصي والموضوعي ، فانعكس ذلك على فهمنا للنقد وممارستنا له .
كيفَ نتلقى النقد ..؟ 
أما من حيث تلقي النقد (ولو كان نقداً موضوعياً) فإننا نتلقاه عادة بحساسية مفرطة ، يرافقها غالباً الغضب والعدّوان وقسوة الرد ، ولهذا الموقف أسباب عدة : فنحن نربط ما بين آرائنا وكرامتنا ، فمن مسَّ فكرة قلتُ بها فقد مسَّ عزة نفسي وكبرياء ذاتي ، وتفسير هذا التوجّه بسيط ، حيث أن معظم آرائنا موروثة أو منقولة عمن حولنا أو منطلقة من عصبية راسخة أو ولاء ضيق لمعتقدٍ أو جنس أو فئة أو شخص ، ولم نتوصل إلى تلك الآراء نتيجة اتباع منهج عقلي ، وبالتالي فإننا نحسها جزءاً من ذواتنا وكرامتنا ؛ لأن منبعها شعوري أو انفعالي . لقد نَشْأنا في مجتمع يُعتبرُ فيه مخالفة رأي الأب أو الشقيق الأكبر أو الخال أو العم أو كبير العشيرة عقوقاً ، ومناقشة فكرة استاذ المدرسة سوء أدب ، وإبداء الرأي الآخر للمسؤول في العمل تمرّداً ، والتعرض لأفكار أصحاب الايدولوجيات السائدة خيانة ، نَشأْنا وثمة مِنْ حولنا الكثير من المُسلّمات التي لا يجوز طرح السؤال حولها فضلاً عن نقدها ، فكيف لنا إذن ان نُتقن مَمارسة النقد بمعناه العلمي النافع ، القائم على فصل الشخصي عن الموضوعي ، وتحري الإيجابيات مثل تحري السلبيات ، والحكم الحر غير الخاضـع للاعتبارات المعدّة مسبقاً ؟ وكيف لنا أن نتقبل النقد بصدر رحب معتقدين بجدواه ؟
النقد أداةُ تغييرٍ وتطوير .. 
وبعد ، فإن حُسْنَ فهم النقد الموضوعي البنّاء ، وحُسْنَ ممارسته ، وحُسْنَ تلقيه والتعامل معه ، يجعلُ منه أداة من أهم أدوات التقدم والتطور على المستوى النفسي والاجتماعي والفكري والأدبي والفني والسياسي والاقتصادي وعلى كافة المستويات ، فنقد الإنسان لذاته بداية لتصويب أخطائه وانطلاقه للأفضل ، ونقد البشرية لأفكارها عبرَ القرون أساس نشوء الفكر الأصحّ والأجدى والأنجع ، والنقد في الفن والأدب سبب رقيهما ، ونقد الإعلام لمؤسسات المجتمع المدني دافع لتحسين إنجازاتها ... لكن النقد في شتى مجالات الحياة يحتاج إلى نضوجٍ ، وحسٍّ ديموقراطي ، واعترافٍ بالآخر ، وتفريق بين الشخصي والموضوعي ، سواء من قبل المُرسل أو من قبل المُستقبِل أو في فحوى الرسالة
Reactions

تعليقات