القائمة الرئيسية

الصفحات



أن تنتج ، يعني أن تضيف إلى الأشياء أو الأفكار أو النشاطات عنصر النفع ، وحين تضيف إليها هذا العنصر ، فإنها تغدو قادرة على إشباع الحاجات الإنسانية المادية أو المعنوية ، وسد مختلف الرغبات ، وبالتالي تصير لهذه الأشياء أو الأفكار أو النشاطات قيمتها المادية في التعامل .  فالإنتاج إذن : حصيلة لجهد موجّه ، يؤدي إلى خلق سلع أو خدمات ، قادرة على إشباع حاجات الفرد والجماعة .  

 الإنسان هو محور الإنتاج وأساسه وهدفه :
بناء على المفهوم الذي تقدم ، فإن الإنسان هو محور الإنتاج وأساسه ، مهما كانت أهمية عناصر الإنتاج الأخرى ، ذلك أن الإنسان هو صاحب القرار منذ البدء في أن ينتج ، وهو الذي يقدم عنصر العمل بما يبذله من جهد ووقت ، وبما يقدمه من معرفة وخبرة ومهارة، وبما يستخدمه من (إدارة) للتنسيق بين الموارد التي تتطلبها عملية الإنتاج ، وبعد هذا وذاك ، فإن الإنسان هو هدف الإنتاج ؛ لأن مخرجاته من سلع وخدمات إنما تسعى لتلبية رغباته وحاجاته ومتطلباته .

 نظرتنا الى الوقت ، والعمل ، والإنجاز ، والإدارة ، تحدد قيمة الإنتاج بالنسبة إلينا
هناك أربعة جوانب أساسية ، أرى أن نظرتنا إليها، وتعاملنا معها ، والوزن الذي نمنحه لها ، تحدد قيمة (الإنتاج) بالنسبة إلينا ، وهذه الجوانب هي : الوقت ، والعمل ، والانجاز ، والإدارة .  وفيما يلي توضيح موجز لعلاقة كل منها بالإنتاج :
ـ الوقت : فهو مورد أساسي لا يقوم الإنتاج من دونه ، وهو مقسم على المجتمعات المنتجة والمجتمعات قليلة الإنتاج بالتساوي ، إنه مورد محدد بدقة ، فلا يمكن زيادته أو الإنقاص منه ، لكنّ موقفنا منه (أي الوقت) ، وطريقة استثمارنا له ، هي التي تحدد مقدار إفادتنا منه في الإنتاج ، فالوقت في المجتمعات المتخلفة شأنه شأن الموارد الأخرى ، مهدور في العادة ، يُنظَر إليه من خلال اللامبالاة ، وتتم إضاعته بلا طائل ، وتُخترع العادات والتقاليد وأنماط الحياة وأساليب ممارسة الملل (إن جاز التعبير) لهدره وتبديده .
ـ العمل : إن النظرة الدونية إلى المهن والأعمال اليدوية ــ وهي نظرة كانت تشكّلُ جزءاً أساسياً من ثقافة المجتمع القبلي ــ ما زالت تأثيراتها ممتدة ، وإلا فما الذي يفسر المعادلة غير المتوازنة التي تقول إن نسبة البطالة في مجتمع ما مرتفعة ، بينما يستورد هذا المجتمع العمالة من بلاد شتى ؟  وما الذي يفسر ارتفاع أعداد الخادمات المستوردات في مجتمع ما ، رغم تدني متوسط الدخل فيه لأكثر من عشرين مرة عن مجتمعات غنية لا تستعين أبداً بمثل هذا العدد من خادمات المنازل ؟  بل لا تقبل ثقافتها الاستعانة بالخدم ، إلا في نطاق الضرورة .
ـ الإنجاز : وأقصد به تحقيق النتائج الملموسة من خلال العمل ، والانجاز أيضاً أساسه ومنطلقه القيم ، فثمة مجتمعات (منتجة) يحقق فيها الفرد ذاته من خلال ما ينجز ، ويتميز من خلال ما يحقق من إنتاج وإبداع ، وثمة مجتمعات (غير منتجة) يحقق فيها الفرد ذاته من خلال الاستهلاك ، ويتميز في المجتمع من خلال نمط هذا الاستهلاك وحجمه ، أو يتميز مـــــن خلال معطيات أخرى ليس الانجاز واحداً منها ، وفقاً لما سنبينه عند الحديث عن ثقافة الإنتاج وثقافة الإستهلاك ضمن هذا الفصل .
ـ الإدارة : فهي بما تتضمنه من تنسيق بين الموارد المتاحة بغرض تحقيق أهداف مؤسسة الإنتاج ، من خلال التخطيط والتنظيم والرقابة والتوجيه وسواها ، يمكن اعتبارها أسلوباً في التفكير ، وقيمة من القيم ، قبل أن تكون علماً له أسسه ومبادئه وقواعده وتفصيلاته، وفناً له مهارته . ويغلب أن تغيب (الإدارة) بوصفها قيمة وعلماً وفناً عن تعامل المجتمعات غير المنتجة مع مواردها ، حتى أن كبير علماء الإدارة (بيتر دراكر) (المتوفي سنة 2005) ، يقول : (( ليست هناك دول متخلِّفة اقتصاديـاً ، وإنما هنـاك دول متخلفـة إداريـاً فقط ، فكل تجاربنا في الدول النامية ، تؤكد أن الإدارة هي المحرك الأساسي للتنمية ، وبدون توافر هذا العنصر لا يمكن تحقيق التنميــــة ، حتى لو توافرت جميع عناصر الإنتاج الأخرى )) .

 تأثّرُ الإنتاج بثقافة المجتمع :
لأن الإنسان هو منطلق الإنتاج ومحوره وهدفه ، كما سبق وذكرنا ، فإنـــه (أي الإنتاج) يرتبط بنمط حياة المجتمع وقيمه وعاداته ، أو لنقل بثقافته بوجه عام ، فهي إما ثقافة سلبية تثبط الإنتاج كماً ونوعاً ، أو ثقافة ايجابية تحفز على الإنتاج وترتقي بحجمه وجودته .  وقد أشار (ابن خلدون) رحمه الله ، قبل نحو ستة قرون ، في مقدمته الشهيرة إلى هذه المعاني إشارات رائعة ، ولكن بلغة عصره وتعابيرها ومن وحي واقعها، فعبّر عن الإنتاج بلفظ (الصنائع) ، وذكر أن أمهات الصنائع هي : الفلاحة ، والبناء ، والتجارة ، والحياكة والخياطة ، والطب ، والخط والكتابة ، والوراقة (المكتبات) ، والغناء وغيرها .  وذكر أقواماً قال إنهم (أبعد الناس عن الصنائع) ، مشيراً إلى تأثير نمط حياتهم وبعدهم عن العمران الحضري في ذلك ، وأشار إلى من لا يرون للحرف والأعمال قيمة ولا ثمناً ، والى من يسعون للتكسب بنهب ما في أيدي غيرهم ، وظل يذكر (البعد عن الصنائع) في مواضع متعددة من مقدمته ، كسبب من الأسباب التي تحول دون العمران وتقدم الحضارة .
ونحن حين نشير إلى تأثير ثقافة المجتمع وقيمه في كم الإنتاج ونوعه ، لا ننكر بذلك تأثير الإنتاج ذاته (بظروفه وأدواته وعلاقاته وأنماطه) في ثقافة المجتمع وقيمه . فالواضح أنه تأثير متبادل : فأشكال الإنتاج ، والموارد المستخدمة فيه ، وطبيعة العلاقات بين أطرافه ، لها تأثير في أفكار المجتمع وقناعاته ومعتقداته وعاداته وقيمه . لكن للأفكار والقيم والثقافات والعادات تأثير أيضاً في حجم الإنتاج ونوعه وجودته وتطوره .

 ثقافة الإنتاج .. وثقافة الاستهلاك :

تقوم « ثقافة الإنتاج « أو « ثقافة الإنجاز « على أساس إحساس المرء وإقتناعه بأنه يستمد قيمة ذاته ومكانته في مجتمعه من خلال حجم ونوع إنتاجه ، ومقدار تميزه وإبداعه في مجاله ، وفي حين تسود هذه الثقافة بين أفراد المجتمعات المتقدمة ، يغلب أن تسود في المجتمعات المتخلفة الثقافة النقيضة ، وهي « ثقافة الاستهلاك « .
وتقوم « ثقافة الاستهلاك « تلك ، على قناعة الفرد وشعوره بأنه يستمد قيمته الذاتية ووضعه المجتمعي من خلال حجم ونوع استهلاكه ، وفي ظل هذه الثقافة ، تستشري في المجتمع قيمٌ واتجاهاتٌ وسلوكات أساسها الاستعراض والتفاخر ، وتقليد أنماط معيشة الآخرين ، والتوسع في الإنفاق بما يتجاوز الدخل ، والركض خلف التظاهر والمظاهر . وتصبح بؤرة تركيز الفرد هي إقناع الآخرين بالمكانة من خلال ما يقتني وما يستهلك ، ولو كان ذلك على حساب سعادته ، أو على حساب المبادئ السامية والقيم الجليلة ، ولو اضطره هذا الأمر إلى الإستدانة ، أو إلى التضحية بمتطلباتٍ حياتيةٍ أخرى ضرورية .
وفي ظل ثقافة الاستهلاك ، تتغلب قيمة الكَمِّ على قيمة الكيف ، ويغدو للأعداد والحجوم والمساحات معنى يفوق معاني الجمال والدفء والراحة والسلام والمحبة ، وفــي ظل هذه الثقافة أيضاً ، تصبح القيم الرفيعة وسائل وليست غايات ، فطلب العلم يغدو وسيلةً للتظاهر والتفاخر من خلال نيل الشهادة ، والسعي نحو الثقافة يصير أسلوباً للتبجح والحذلقة والفذلكة الخاوية ، والاشتراك في الأعمال التطوعية يُمسي طريقة للظهور والشهرة ، ويصبح العمل أسلوباً لنيل الجاه والحظوة ، ويتحول الاهتمام بالجمال إلى وسيلة للاستعراض والتباهي ، وهكذا ..
أجل ، عندما تسود « ثقافة الاستهلاك « تختل الموازين وتفسد المعايير ، وتفقد كل المعاني الكبيرة مضمونها وعمقها وبعدها ، ويصير السعي لنيل إستحسان الآخرين وإقناعهم بالمكانة محوراً للحياة والوجود ، ويتم توجيه الكثير من جوانب الحياة : كالعمل ، والزواج ، والسكن ، ودراسة الأبناء ، والتعامل مع التكنولوجيا ، والسفر ، والترفيه ، والزيارات ، والاستقبالات ، والولائم ، وكذلك الفن وطريقة الحديث ، واللغة ، واللكنة ، واللباس ؛ لكي تتناسب مع هذه الثقافة ومحاورها ومقتضياتها .
ولأجل أن تتمكن ثقافة الإستهلاك هذه من البقاء والاستمرار والانتشار ، لا بد لها من الإستعانة ببعض الوسائل المساعدة ، كالإستناد إلى الحسب والنَّسب في تعزيز المكانة والنفوذ والحظوة ، والاعتماد على التطفل والركوب المجاني ؛ لغايات التكسُّب ، والتوسل بالنفاق والكذب والخداع للوصول إلى هذا وذاك وغيرهما .
وبعد كل ذلك ، لا عجب حين يفوق إنتاج المجتمعات المتقدمة التي تسودها ثقافة الإنتاج والإنجاز ، حجم إنتاج مجتمعات ثقافة الاستهلاك بعشرين أوثلاثين ضعفاً ، وفقاً للأرقام والإحصاءات الدقيقة . ولا عجب أن تتفوق مجتمعات ثقافة الإنتاج من حيث متوسط العمر ، وقلة عــــدد وفيات الأطفال ، والمستوى الصحي والتعليمي ، ومستوى الثقافــــة ، والرفاهية ، على المجتمعات المتخلفة بشكل ملفت ، ولا عجب أيضاً حين تكون مجتمعات ثقافة الإنتاج هي مصدر العلم والإختراع والإبداع الذي يسهّل حياة البشر ويطوّرها ، بل لا عجب أيضاً حين تكون مجتمعات ثقافة الإنتاج هي المنتصر دائماً سياسياً وعسكرياً وثقافياً .
وإذا كانت وسائل الإعلام لا تقوم بدورها في ترسيخ ثقافة الإنتاج ومقاومة ثقافة الاستهلاك ، بل تعزز الأخيرة عن قصد أو عن غير قصد ، فلا أقلَّ من أن تقوم المؤسسات التعليمية بالسعي لإجتثاث ثقافة الإستهلاك من نفوس وعقول النشء ، وبخاصة عن طريق مقارنة نتائجها بنتائج ثقافة الإنجاز والإنتاج ، كما أن لمؤسسات العمل دوراً مهماً يمكنها أن تضطلع به في سبيل تنمية هذه الثقافة ، من خلال الدورات التدريبية ، ومن خلال تقدير العاملين على أساس كفاءتهم وإبداعهم وجودة أدائهم ، دون أي اعتبارات أخرى .

وبعد :
إن كثيراً من المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة أو المتدنية ، إنما يعود لقلة إنتاجها ، والذي ينجم بشكل أساسي عن غياب القيم الدافعة للإنتاج ، وانتشار الثقافات التي تقلل من حجمه وجودته .  وكثيراً ما نمرُّ على المشكلات الاقتصادية فننظر إلى مفهومها الذي يظهر على السطح ، دون أن نتفهّم جوهرها : فنحن حين نتحدث عن التضخم مثلاً ، تخطر ببالنا الزيادة المستمرة والمؤثرة في المستوى العام للأسعار ، وننسى أن التضخم في جوهره وحقيقته يعني أن الطلب في المجتمع يزيد على (الإنتاج) فيه .
وحين نتحدث عن معدل دخل الفرد ، يتبادر لذهننا أنه قليل نسبة إلى دخل أفراد المجتمعات الغنية، ويفوتنا أن هذا الدخل يعبر عن (إنتاج) المجتمع في فترة معينة مقسوماً على عدد سكانه، وحين نذكر النمو الاقتصادي نتطلع إلى نسبته ، دون أن نتفكر في أنه يمثل الزيادة في (الإنتاج) الإجمالي الحقيقي للمجتمع ، حتى البطالة فإنها تزداد بنسب يمكن تحديدها اقتصادياً كلما قل إنتاج المجتمع .  إذن فالإنتاج دائماً هو المحور والأساس ، ونظرتنا إلى (الإنتاج) واستعدادنا النفسي (لممارسته) ، من أهم الأمور الدافعة إلى زيادته وجودته .


 إبراهيم كَشت
Reactions

تعليقات