قبل سنوات ورد في الأخبار أن لوحة ( زهور السوسن ) للرسام العالمي الشهير ( فنسنت فان جوخ ) قد بيعت بالمزاد العلني بمبلغ ثلاثة وخمسين مليون دولار ، وكانت إحدى الشركات اليابانية قد اشترت لوحتـه ( زهور عباد الشمس ) بمبلغ تسعة وأربعين مليون دولار ، وهما رقمان قياسيان في المزادات على الأعمال الفنية . ولكن المحزن أن الفنان الهولندي المولود عام 1853 قد توفي في السابعة والثلاثين من عمره منتحراً في مصحة عقلية بفرنسا بعد عام واحد من رسم لوحته الشهيرة ، وهو يعاني الفقر والبطالة نتيجة مرض الصرع الذي أدى به إلى الإحباط النفسي حيث تنكر له المجتمع ، ورفض الإعتراف بموهبته ولم يتمكن من بيع لوحاته . ففي القرن التاسع عشر كان المتبع لمرضى الصرع وضعهم في مصحات عقليه لحظة إكتشاف المرض ، و تركهم دون علاج ، وهذا كان يؤدي لتدهور أحوالهم النفسية والعقلية ، وهناك عظماء في التاريخ من أصابهم هذا المرض منهم يوليوس قيصر ونابليون بونابرت ، والكاتب الروسـي يستوفسكي ، وقد أفلت هؤلاء العظماء من الدخول للمصحات العقلية .
في عام 1924 تمكن العالم الألماني هانزبرجر من تسجيل تموجات الدماغ الكهربائية في الإنسان ، وفي عام 1934 أثبت العالمان البريطانيان أدريان وماثيوز في كمبردج ، أن مرض الصرع هو إضطراب دوري في الإيقاع الأساسي لنشاط الدماغ الكهربائي له أسبابه العضوية والبيولوجية ، ويوجد منه عدة أنواع يمكن تصنيفها سريراً وتشخيصها كهربائياً مثل تخطيط القلب الكهربائي . وفي العقود الأخيرة أدخل الحاسوب للتخطيط الكهربائي لزيادة الدقة في التسجيل والتحليل ، ومن سوء حظ ڤان جوخ ، أنه لم يشهد عصر الثورة الطبية في العقاقير المضادة للصرع والتي بفضلها أصبح من الممكن السيطرة بشكل كبير على هذا المرض ،وبالتالي التخفيف بشكل كبير من مضاعفاته النفسية والعقلية أو منعها ، ومن المعروف الأن أن الصرع مرض عصبي وليس نفسي أو عقلي أو روحي ، ومع ذلك مازال الإعتقاد السائد بين الناس أن هذا المرض فيه تلبس من الجن أو الشياطين أو أنه ضرب من ضروب الجنون والبعض يصنفه على انه مرض روحي .
أما الطب النفسي فيرى أن الروح قدرة إلهيه كما جاء في سورة الإسراء ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) ، أما النفس فهي مجموعة وظائف فسيولوجية نتيجة نشاط مراكز وخلايا الدماغ في منطقة اللحاء أو القشرة التي هي مركز القدرات العقلية العليا ، أما مرض الصرع فيعتبر مرضاَ عصبياً وهو إما أن يكون خللاً كهربائياً عاماً في جميع الدماغ ، أو جزئياً في أحد مناطقه ، والتي قد لا تكون بالضرورة في منطقة الوظائف النفسية والعقلية ، وفي بعض حالات الصرع إذا كانت البؤرة الصرعيه قريبة من الوظائف النفسية يكون للصرع مظاهر نفسيه ومثال ذلك الصرع الصدغي الذي يسمى أيضاً الصرع النفسي الجسدي .
من المزعج حقاً إن يكون في هذه الأيام مريض بالصرع لا يعالج ويضرب ويرش عليه الماء أو العطر أو أن يكتفي من حوله بوضع حجاب في رقبته ، ومن المؤسف أن ترى البعض ينبذ المصاب بهذا المرض وعائلته ، ويربط المرض ساعة بالسحر وساعة بالجن وساعة بالمرض العقلي ، وبدل الحجاب الذي لا قيمة له فإنه في الكثير من الدول المتقدمة الأن تجد مرضى الصرع يحملون في جيوبهم ما يفيد بأنهم مصابون بهذا المرض ورقم هاتف أو عنون يمكن الإتصال به إذا حدث الأمر في الشارع ،كما يلتزم المصابون بالمرض بالتعليمات الهامة في العلاج ومتابعته وعدم قيادة السيارات ، أو القيام بأعمال قد تعرضهم للخطورة ويتم التعامل مع المرضى بكل واقعية وإنسانية .
الطبيب النفسي له دور في معالجة بعض أنواع الصرع وخصوصاً الصرع الجزئي الذي ينتج عنه مظاهر نفسية ، كما إن هناك مضاعفات وإضطرابات نفسيه تحدث لدى مرضى الصرع تتطلب معالجتها من قبل الطبيب النفسي ، إضافة إلى إن المعاقين عقلياً يصابوا بالصرع بدرجه أكبر من غيرهم ، وهذا يعني إن الطبيب النفسي ضمن عمله مع المعاقين عقلياً وخصوصاً الأطفال ، يقوم بمعالجة نوبات الصرع عند هؤلاء المعاقين إضافة لمعالجة الإضطرابات السلوكية والنفسية والعاطفية التي تصيبهم .
د. وليد سرحان
تعليقات
إرسال تعليق