في الفيزياء ، يقال إن الفراغ أو الخواء هو فضاءٌ خالٍ من كلِّ شيءٍ تقريباً ، ولاسيما من الهواء والغازات ، ويقال إن الفراغ المطلق غير مُتصوَّر على وجه الأرض ، ويعتبر من قبيل الفراغ وجود حدٍّ أدنى قليل نسبياً من الجُسيمات في الحيّز الفارغ ، ويكون عدد هذه الجُسيمات أقل بكثير بين الأرض والقمر ، أما بين المجرّات فقد يكون الفراغ كاملاً ، لكنه مع ذلك يحتوي على أنواع من الطاقة كحقول القوة والإشعاع .
انتفاء الفراغ من الوجود
هذا الذي تقدّم ، هو بعض ما استطعتُ أن أقفَ عليه وأَعرفه من خلال مراجع علمية مبسطة ، وقد ذكّرني بما قال به بعض الفلاسفة منذ مئات السنين حول انتفاء الفراغ من الوجود ، وامتلاء كل شيء 0 وهو يُذكِّر ـ كذلك الحال ـ بما يقوله الراسخون في الفكر الاستراتيجي من أن الفراغ في هذا العالم غير مُتصوّر وغير موجود ، فحين تغيب سلطة أو قيادة أو يغيب من يؤدي الدور ، فثمة دائماً قوة تأتي لتملأ الفراغ ، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو المجتمعات أو الدول .
سنن الحياة ترفض الفراغ
الواضح إذن أن ما يجري على المواد والأجسام في عالم الفيزياء ، ينطبق إلى حد بعيد على الجانب المعنوي من الحياة ، وقد نُعبِّر عن ذلك الفراغ بمفهومه المعنوي بأنه غيابٌ أو ثغرة أو فجوة أو خواء أو ربما تجويف ، والواضح أيضاً أن سنن الحياة ترفض الفراغ وتدفع قوة أخرى لملئه 0 ومن هذا القبيل ما يقوله الذين بحثوا في موضوع التخطيط ، فإذا أنت لم تخطط لحياتك ، فثمة من سيملأ الفراغ ، فتكـون مجرد بندٍ على أجندة الآخرين ، وإذا لم تكن لك قيمٌ وأهداف ومسارات ، فستغدو شخصاً يمثل دوراً في سيناريو كتبه الآخرون !
لا فراغ في مجال الأفكار والقيم
إذا غاب العلمُ عن ثقافة المجتمع ، فإنه لا يترك فراغاً في العقول ، لأن الخرافة متحفِّزةٌ لتحل مكانه وتجد المرتع الخصيب الذي تنمو فيه ، وإذا غابت قيمة الإنجاز لم تترك أيضاً فراغاً فثقافة الاستهلاك جاهزة لتسكن مكانها ، وإذا غابت قيم الجمال فسوف تنمو في حقول الذوقِ اشكال الابتذال والسُّخف والفن الهابط والأدب الهزيل 0 ذلك أن للقيم دائماً أَرضٌ خلاءٌ تربتها حمراء ، إذا لم تزرع بأشجار الثمر والزينة والزهر والورد ، أبت سنن الحياة أن تتركها فراغاً ، فنمت فيها الأشواك والأعشاب الضـارة ، وبدأت تمـدُّ جذورها وتلقي بذورها ولا فراغ في استخدام الوقت .
وعلى صعيد الزمن وعلاقته بالانسان ، أَقصد على صعيد الوقت ، فإن الفراغ غير مُتصوِّرٍ أيضاً ، فإذا لم يُملأ وقت الانسان بالعمل الجادّ والهادف والمثمر والمجدي 00 فسوف يمتلئُ بالملل والتثاؤب والتمطّي وممارسة فنون الكسل ، أو يمتلئ بالسعي خلف الصغائر والتوافه والسخائف ، أو يمتلئُ باختلاق المشاكل والالتهاء بمعايشتها والدوران حولها ، أو يمتلئ بالانهماك في قصص الآخرين الصغيرة أو التدخل في شؤونهم وتتبع عيوبهم ، أو بالتذمر والانتقاد واطفاء الشموع ولعن الظلام .
قاعدة الفراغ والامتلاء
تسري قاعدة الفراغ والامتلاء تلك على كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية والأُسرية والاجتماعية والفكرية والثقافية ، ففي الاقتصاد مثلاً إما أن يكون الانتاج أو يحل مكانه الاستيراد ، وإمّا أن يكون الاستثمار أو يأخذ مكانه الاستهلاك 00 حتى في علوم التسويق فثمة فهمٌ لهذه الحقيقة ، من خلال استراتيجية البحث عن الثغرة ، أي عن الفراغ الذي يمثل فرصةً يمكن أن تُملأ
مثل هذه الحقائق التي تطبق على المادة وتسري أحكامها على عالم الأفكار والمشاعر والقيم ، وعلى أوضاع الانسان وظروفه وحالاته ، تفسّرُ جوانب كثيرة من الحياة ، صحيح أن البعض يقول إننا نحتاج إلى تغيير العالم وليس تفسيرهُ ! لكن أَنّـى لنا أن نغيره ما لم نفسّره ؟
إبراهيم كشت
تعليقات
إرسال تعليق