القائمة الرئيسية

الصفحات




الإنتحار هو قتل النفسي المتعمد، وهو سلوك إنساني بالغ التعقيد له جذور بيولوجية وإجتماعية ودينية ونفسية ، وحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية فإن مليون إنسان ينتحروا سنوياً ، وبالتالي فإن المعدل العالمي هو 16 حالة إنتحار لكل 100000 من السكان أي وفاة بالإنتحار كل 40 ثانية .
وفي خلال 45 سنة إرتفعت معدلات الإنتحار 60% عالمياً . والإنتحار الآن من الثلاثة أسباب الرئيسية للموت في الأعمار بين (15-44 سنة) في الجنسين ، أما محاولات الإنتحار فهي 20 ضعف الإنتحار المكتمل.
إن معدلات الإنتحار تتحدد بالعمر والجنس والعرق ، أما الخلفية الدينية فلها تأثير كبير على هذا المعدل ، بالنسبة للرجال فإن المعدل يتزايد مع العمر ويصل الذروة بعد سن الخامسة والستين، ومعد ل إنتحار الإناث أقل وتكون أعلى في الأربعينات والخمسينات من العمر، ويصل معدل إنتحار الرجال ثلاثة أضعاف النساء ، وفي السنوات الأخيرة ظهر تغيّر مزعج في إرتفاع معدلات الإنتحار بين الشباب والفتيات في مقتبل العمر ، ويرتبط هذا بالتغيّر الإجتماعي والتفكك الأسري والإبتعاد عن الدين وإنتشار تعاطي المؤثرات العقلية . إن معدلات الإنتحار في الدول الإسلامية ما زالت أقل ، ولكنها في إزدياد مع أن عدم التبليغ ما زال يلعب دوراً في عدم دقة الإحصاءات.

الثقافات والإنتحار:
يحدث الإنتحار في كل العصور ، وكل مناطق وثقافات العالم، ولكن نمط الإنتحار يرتبط بالثقافة . إن الحضارة الغربية ذات المجتمعات الغنية والرعاية الجيدة تشكو من الفقر العاطفي ، حيث تآكل الإرتباط بالشبكة الإجتماعية ولم يعد هناك إنتماء للبيئة المحلية ، وهناك دلائل كثيرة بأن الدول النامية تدخل مرحلة زيادة معدلات الإنتحار.

الديانات والإنتحار:
إن الإسلام هو أكثر الديانات التي تدين الإنتحار حيث إعتبر الحياة هبة من الله وعلينا تقبّل تبعاتها وتحديداً إثنين ، العرفان بالحياة التي منحت لنا، والرضوخ لله عز وجل ، ولا يمكن تحقيق أي من هذين الواجبين بواسطة الإنتحار. وعلى العموم فإن الدول الإسلامية تسجل معدلات إنتحار أقل من العالم المسيحي ، ومع أن المعدلات في الدول الإسلامية منخفضة إلا أنها ترتفع بين المسلمين المهاجرين للغرب . وتتفاوت الديانات في مواقفها من الإنتحار ، فالهندوسية مثلاُ لم تتخذ موقفاً سلبياً من الإنتحار وفي أحوال معينة شجعته كحرق الزوجة نفسها مع جثة زوجها المتوفي ، وتحفظت في الأحوال التي يكون فيها الإنتحار بلا هدف . أما تعاليم كتفوشيوس فلا تسمح بالإنتحار . وفي اليابان أخذ الإنتحار طابعاً تقليدياً وطنياً أكثر من باقي العالم، وخلفية اليابان الدينية هي البوذية والشينتويه.

أسباب الإنتحار:
تغيّرت تفسيرات الإنتحار تاريخياً من فلسفة الأخلاق إلى العلوم الطبية والبيولوجية والنفسية والإجتماعية ، والتي تتناول الإنتحار كظاهرة فردية وكظاهرة سريرية وتحدٍ للصحة العامة في محاولة فهمها ، إن العوامل النفسية والإجتماعية والبيولوجية التي سوف نستعرضها في الإنتحار هي كما جاءتحديدها في الدراسات السريرية والوبائية.

1-الأسباب البيولوجية:
هناك زيادة في الإنتحار ببعض العائلات ، كما أن دراسات التوائم أظهرت إرتفاع الإنتحار في التوائم المتشابهة عن التوائم غير المتشابهة ، وحدوث الإنتحار في الفرد التوأم قد يشير إلى تقليد السلوك، كما أنه من الممكن أن يكون إنتحار أحد التوأمين رادعاً للآخر بعدم الإنتحار، وإن عدم وجود توافق كامل في التوائم المتشابهة من حيث إنتحار الإثنين يدعم الدور المهم للأسباب البيئية ، أما دراسات التبني على الطريقة الغربية فقد أظهرت إرتفاع معدلات الإنتحار بين أقارب الدم للمنتحر عن أقارب التبني. 

دلت دراسة الأدمغة بعد الإنتحار على وجود نقص في مادة السيروتونين وخاصة بوظائفها في القشرة الدماغية الجبهية والذي يساهم في إفلات السلوك العدواني والإندفاعي ، وتدل الدراسات السريرية على أن العنف يزيد في الأشخاص الذين سبق لهم أن حاولوا الإنتحار وإن السيروتونين الدماغي يتأثر بعوامل بيئية كثيرة كالضغوط النفسية والفقدان ، وإساءة إستعمال المؤثرات العقلية وإنخفاض معدل الكوليسترول والإكتئاب النفسي ، وكلها ترتبط بالإنتحار.

2- العوامل النفسية:
لقد تركزت وجهة النظر الدينامية على دور الصراعات والفقدان والتغيّرات في العلاقات كعوامل مساهمة في خطورة الإنتحار ، وينظر للإنتحار على أنه عمل ذهاني أو إكتئابي ، ويقترن أحياناً بآمال الهروب أو المكافأة أو إعادة اللقاء أو البعث من جديد . وفي وجهة النظر التحليلية فإن الإكتئاب ليس بالضرورة أن يكون تشخيص إضطراب مزاجي محدد ، ولكن معاقبة الذات تنطلق من الشعور بالذنب أو العار، ويمكن فهم الإنتحار نفسياً على أنه ردة فعل مبالغ فيها من الإستغراق بالإهانة وخيبة الأمل التي تنطلق من دوافع عنيفة وعقابية وإنتقامية ، والتضحية والرغبة في القتل والموت أو الشوق لخبرات أفضل بعد الموت ، كما يكون الإنتحار أحياناً أمل في الوصول للبطولة أو الإندماج في عالم آخر ، ومن معاني الإنتحار المألوفة الوحدة الشديدة، والعزلة، خصوصاً في أصحاب الشخصيات المضطربة ، كما تغلب وسائل الدفاع والتمسك بالأشياء أو الأشخاص المفقودين والعنف ضد الذات بالإضافة للأمراض النفسية والعضوية ، التي تدعمها عوامل بيولوجية ووراثية ، وهذه جميعاً تساهم في حدوث الإنتحار ولكن أي منها لا يعتبر ضروري ولا داعي لحدوثه بحد ذاته ، إقترح العالم تودو مغزى مشترك للعمليات النفسية المختلفة وتفسيرها للإنتحار، على أنه الدفاع الأخير عن الهوية والذات ، وردة الفعل هذه تأتي من التهديد الكبير لإحترام الذات والثقة بالنفس، غالباً عن طريق الفقدان وخيبة الأمل بهؤلاء الأشخاص أو المجموعات الإجتماعية أو النشاطات المهنية والتي كان فيها إستثمار إنفعالي كبير ، والتي أحياناً ما تؤدي بشكل واضح إنفعالي للشعور بتحطيم الذات الشديدة الذي لا يمكن إصلاحه.

3- العوامل الإجتماعية:
الدراسات الإجتماعية تبحث في الأنماط الإجتماعية الثقافية التي تؤثر على الإنتحار بما في ذلك الأسرة، الثقافة، الدين، المهنة، والمستوى الإقتصادي والإجتماعي، والمجموعات والتنظيمات المختلفة، ويكون ذلك مأخوذ من الدراسات البيئية والوبائية التي تبحث في علاقة معدلات الإنتحار مع المتغيرات السكانية والطائفية، لقد بدأت الدراسات الإجتماعية الحديثة بالعالم مورسيلي ودركهايم، وتلاهما الإقتصاديات الإجتماعية التي قام بها مالتاس والتحديد التطوري لدارون ، وقد فسر مورسيلي الإنتحار بأنه نهاية عدم وجود المتطلبات الحيوية وبالتأكيد فقدان الأضعف ، أما دركهايم فقد ميز ثلاث أنواع من الإنتحار: الذاتي والإيثاري والعدائي معتمداً على الدور الإجتماعي أو العلاقات السلبية التي ترتبط بالإنتحار كما أن الإنخراط بعلاقات سيئة والعلاقة مع مجموعات متطرفة له أثر، و العزلة الإجتماعية والحرمان المادي والعاطفي تلعب دوراً هاماً في الإنتحار ، وعلى هذا فإن النموذج النفسي الحيوي الإجتماعي متعدد العوامل هو المقبول حالياً، فهو يقدم النموذج النظري الشامل.

• التأثيرات العالمية: إن التغيّرات العالمية في القرن العشرين كان لها تأثير قليل على معدلات الإنتحار الإجمالية، ومع هذا فإنه على عكس المتوقع، فقد إرتفعت معدلات الإنتحار في الدول التي لم تدخل حروب ولم تتعرض لكوارث إقتصادية ، وهذه الزيادة حدثت بشكل خاص في الدول التي تمتعت بمعدلات منخفضة في عام 1900 ، فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية كان معدل الإنتحار10.2 لكل 100000 من السكان في عام 1900 ، إرتفع إلى 16.2 في بداية الحرب العالمية الأولى، وإنخفض في العشرينات ليرتفع ثانية إلى 17.4 في مرحلة الركود، ثم إنخفض ثانية في الحرب العالمية الثانية بينما المعدل في ألمانيا بقي ثابت وإنخفض قليلاً ، و إرتفع المعدل في دول لم تكن معنية مباشرة بالحرب مثل فنلاند، وإيرلندة، ولكن بالنسبة لمعظم مناطق العالم فإن الحربين الأولى والثانية ترافقت مع إنخفاض المعدل، ومن الملحوظ أن الدولة المهزومة والمحايدة تساوت في ذلك ، يستثنى من هذا زيادة إنتحار النساء بعد فقدان أحد أفراد العائلة في الحرب، وعموماً فإن معدلات الإنتحار تقل في الكوارث والأزمات وتزيد بعد إنتهاء الحالة الطارئة.

الحالة الزوجية والتوجه الجنسي: هناك معدلات أقل للأفراد المتزوجين ولديهم أطفال صغار، وغالباً ما يرتبط هذا بزيادة الشعور بالمسؤولية، كما أن هناك تحيّز في الإختيار نحو الأشخاص الأكثر تكيفاً وتأقلماً في حياتهم، وعلى العكس فإن الرجال الأرامل كبار السن يحملوا الخطر الأكبر في الإنتحار.
وجدت الدراسات إرتفاع ملحوظ في الشباب المثليين جنسياً ومزدوجي الإتجاه فقد وصلت 20-39% ، وهذا يعتبر 5-10 أضعاف المعدل المتوقع ، والدراسات الجديدة تؤكد الدراسات القديمة بأن المثلية الجنسية تؤدي للضغط الإجتماعي وفقدان الهوية وصراعاتها وبالتالي زيادة السلوك الإنتحاري.

الطبقة الإجتماعية الإقتصادية: يرتفع الإنتحار في طرفي الطبق الإقتصادي الإجتماعي ، كما أن هناك زيادة واضحة عند التغيّر في الطبقة الإجتماعية الإقتصادية صعوداً أو هبوطاً ، كما أن مستويات التعليم العالية والبسيطة تظهر معدلات أقل ، أما العلاقة بين السلوك الإنتحاري والبطالة فهي متناقضة ، ولكن هناك مؤشرات بأن البطالة قد تساهم في خطورة الإنتحار بشكل غير مباشر، عن طريق التأثير على توتر الجو الأسري والحرمان المادي، وفقدان الدور الإجتماعي وإحترام الذات التي تؤدي إلى العزلة واليأس وتعاطي الكحول والعنف.
الدين: مع أن معظم الأديان تعارض الإنتحار ، فإن معدلات الإنتحار تتفاوت بين الديانات والمناطق التي يسودها دين معين ، فعلى سبيل المثال فإن مورسيلي قد وجد معدلات الإنتحار أقل بين الأوروبيين الكاثوليك من البروتستانت واليهود، ومعدل الإنتحار للدول الأوروبية الكاثولوكية هو 12.5 لكل 100000 من السكان مقارنة بمعدل 17.6 بالدول التي يسودها البروتستانت ولكن دون وجود فرق بين إيرلندا الشمالية والجنوبية.

كما أن خطورة الإنتحار تكون أقل في من يمارسوا الشعائر الدينية، بعض هذه الفروق قد تكون نتيجة لأسباب عملية مثل عدم التبليغ والتي تسود في الدول التي فيها مواقف قوية ضد الإنتحار ، فعلى سبيل المثال بعض الدول الكاثولوكية أظهرت إرتفاع واضح بمعدلات الإنتحار نتيجة لتحسن التبليغ وقبول جنازات ومراسم دفن المنتحرين، أما التقارير من الدول الإسلامية فإنها تشير إلى معدلات تتراوح بين 1.5-10 لكل 100000 من السكان.

المعيشة في المدن والريف: عادة ما تتهم الحياة في المدن بأنها تخلق بيئة عازلة فردية ترتفع فيها معدلات الإنتحار ، مورسيلي لم يجد فروق بين معدلات الإنتحار في المدن والريف. في الولايات المتحدة وتحديداً في الولايات التي فيها أكثر عشرة مدن مزدحمة تشكل 87/% من السكان، كانت معدلات الإنتحار مثل المعدل العام أو أقل بقليل، أما في إستراليا مؤخراً فكان هناك زيادة في معدلات الريف، ومن الممكن أن يكون عدم توفر الخدمات المناسبة في الريف أهم من عامل العزلة الإجتماعية في المدن.

الجنس والعرق: في الولايات المتحدة معدل إنتحار الرجال البيض هو 20.3% /100000 وهذا ضعف المعدل لدى السود وغيرهم من غير البيض، وكذلك المعدل للمرآة البيضاء في الولايات المتحدة 4.8/100000 هو ضعف المعدل للمرآة السوداء وثلاثة أضعاف النساء من غير البيض والسود، وفي أوروبا معدل إنتحار المنتحرين من أصل فنلندي ويؤجريكي هو ضعف المعدل الأوروبي ، وتبدو الفروق العرقية في معدلات الإنتحار مستقلة عن مكان السكن الحالي، فعلى سبيل المثال المهاجرين الألمان والفرنسيين والإنجليز في ولاية نيويورك معدل إنتحارهم أعلى من باقي البيض الذين يعيشوا في المنطقة ، أما المهاجرين الإيطاليين فمعدلاتهم أقل وهذه المعدلات جميعها قريبة من معدلات البلاد التي ينحدروا منها.

الإنتحار بالتقليد: مع أن الإنتحار أمر شخصي إلا أن تأثر القوى الإجتماعية بما فيها التقليد وارد، وفي الأدب الرومانسي الكثير من حالات الإنتحار بالتقليد ، وكمثال واضح من رواية جوتة (1774) والتي إنتحر فيها البطل ويرذر عندما رفضته الفتاة التي أحبها ، وهذا الموت الروائي تبعه موجة إنتحارات من قبل الشباب في الواقع، مما جعل إستعمال مصطلح أتر ويرذر) (الإنتحار بالتقليد الرومانسي) ، في عصرنا الحاضر يبدو أن الإنتحار بالتقليد يتأثر بوسائل الإعلام واسعة الإنتشار، والتي بدأت تتخفظ أحياناً على التقارير المثيرة للإنتحار والتي تحمل تفاصيل وطرق الإنتحار.

عوامل الخطورة:
1- العوامل السكانية والإجتماعية:
• الرجال الشباب وكبار السن.
• الأمريكيون الأصليون والجنس القوقازي.
• الأرامل ، فالمطلقين ثم المنفصلين فالعزّاب.
• العزلة الإجتماعية بما فيها الأماكن الجديدة و المتهالكة والمواقع الريفية.
• الضغوط المالية الجديدة والمهنية والفقدان والإهانة.
• المقامرة.
• سهولة الوصول لوسائل الإنتحار كالأسلحة النارية والمواد السامة وغيرها.

2-العوامل السريرية :
• إضطرابات الشخصية الحدية والنرجسية والمضادة للمجتمع.
• تاريخ وجود سمات العنف والإندفاع.
• وجود مرض عضوي.
• وجود تاريخ إنتحار بالأسرة.
• محاولات الإنتحار السابقة أو غيره من الأفعال الإندفاعية أو إيذاء الذات.
• الغضب والتهيج وإنحسار الإهتمامات.
• إساءة إستعمال الكحول والمؤثرات العقلية وشراهة التدخين.
• سهولة الوصول للسموم القاتلة وخصوصاً الأدوية.
• خطط الإنتحار والتحضير للموت وكتابة وصية.
• قلة التردد فيما يخص الحياة مقابل الموت.

3-العوامل المتعلقة بالشباب:
• كل ما سبق مع إنخفاض الفروق العرقية.
• الزواج حديثاً ، الحمل الغير مرغوب فيه.
• عدم توفر الدعم العائلي.
• وجود تاريخ لأشكال الإساءة.
• مشاكل دراسية.
• الإهانة والصدام الإجتماعي
• إضطرابات السلوك.
• الميل للشذوذ الجنسي.

4-العوامل المرسبة.
• الضغوط الحديثة خصوصاً فقدان الأمان العاطفي ، أوالإجتماعي، أوالمادي أو المالي.
-العوامل الواقية:
• الزواج ووجود شبكة دعم إجتماعي.
• الإيمان والإلتزام بالدين وخصوصاً الإسلام.
• وجود أطفال معتمدين.
• وجود علاقة مستمرة داعمة مع من يقوم بالرعاية.
• عدم وجود الإكتئاب أو إساءة إستعمال المؤثرات العقلية.
• القرب من الخدمات الطبية والنفسية.
• معرفة أن الإنتحار هو محصلة مرض.
• توفير مهارات حل المشاكل والقدرات على التحمّل.

الإضطرابات النفسية: 
أظهرت الدراسات أن أكثر من 90% ممن ينتحروا يعانوا من إضطرابات نفسية هامة، ونصفهم يعانوا من الإكتئاب وقت الإنتحار . ثلث الإنتحار يحدث في أشخاص مدمنين كحول، مرضى الفصام، إضطرابات القلق، وأما باقي الإضطرابات النفسية فهي أقل في الإنتحار . حوالي 5% من المنتحرين يعانوا من أمراض عضوية هامة ، كما أن الإنتحار مرتفع بين الأشخاص الذين يعانوا من إصابات الدماغ، الصرع، التصلب اللويحي، مرضى هنتغتون ، مرضى باركنسون، السرطان ، ومرضى الأيدز والذي يصل فيه معدل الإنتحار 7 أضعاف المعدل العام بين السكان.
هناك نسبة قليلة من الأشخاص الذين ينتحروا لا يبدو أنهم مصابين بأي مرض نفسي أو عقلي. البعض يجادل بأن هذا النوع من الإنتحار منطقي، وله أسبابه وقناعاته في الحاجة للموت ، على سبيل المثال الرجل الأرمل ويعاني من سرطان متقدم طبياً، كئيب وليس له أي أمل في المستقبل ويرغب في وضع حد للألم والمعاناة . قد يكون العديد من هذه الإنتحارات التي تبدو ظاهرياً على أنها منطقياً هي في الحقيقة غير منطقية، ولكن ببساطة المعلومات غير متوفرة لتأكيد الحالة النفسية، لأن الشخص قد فارق الحياة ، وكان معزول إجتماعياً ولا يوجد أي شخص يعطي معلومات.

مشاكل سريرية:

الحالة الأولى:
رجل أردني مسلم متمسك بدينه ويراعي كل العبادات المطلوبة ، وهو رجل اعمال . في شهر رمضان المبارك في الرابعة صباحاً قتل نفسه في غرفة مغلقة ، يقطع شرايين الرسغ وبلع أكثر من مائة حبة من أدوية مختلفة وأطلق النار على رأسه ، كان الإنتحار صدمة كبيرة للأسرة والأصدقاء ولم يصدقوا قرار المدعي العام بإعتبار الموت إنتحاراً . في وقت لاحق تم إكتشاف وصية من 20 صفحة والتي توضح بأنه كان يعاني من إكتئاب شديد وقد إضطراب تفكيره ، وتشاؤم شديد يتناقض مع خطبه ودروسه في المساجد وكل مكان. ومن الواضح أنه قد وصل لخلاصة من خلال قراءته للكتب أنه مصاب بالإكتئاب ، ولأنه إعتبر أن طلب المساعدة من طبيب نفسي أمر مخجل ومشين وأن الإنتحار هو البديل الأفضل .
ما هو الرأي الإسلامي في موت هذا الرجل؟

الحالة الثانية:
رجل أردني مسلم أعزب، أمضى نصف حياته يدخل ويخرج من السجن لجرائم مختلفة ، وقد أساء إستعمال الحشيش والكحول والهيروين وكان له علاقات جنسية محرّمة عديدة ، كما أنه كان مزدوج في توجهاته الجنسية ، كما كان يؤذي نفسه في مرات عديدة، وكان عنيف مع كل الناس، يسرق ويدمر الممتلكات ، وكان له علاقات عاطفية عديدة، أصيب بالإيدز، وقد أحرق نفسه ومات.
ما هو الرأي الإسلامي في موت هذا الرجل؟

الحالة الثالثة:
رجل أعزب مريض بالفصام عمره 25 سنة، يسمع أصوات ويتوهم ولديه إضطرابات كثيرة في التفكير . وكأن الهلاوس السمعية كانت تعلق عليه أو تتكلم عنه ، وفي أحوال كانت تعطي أوامر في معظمها عنيفة ، وقفز من الطابق الخامس طاعة لهذه الأصوات ، وكان هذا ما قاله للأطباء في العناية المركزة حيث توفي بعد يومين.
ما هو الرأي الإسلامي في موت هذا الرجل؟

الحالة الرابعة:
إمرأة مسلمة متزوجة عمرها 28 سنة أصيبت بإكتئاب النفاس الشديد المصحوب بأعراض ذهانية ، وشعرت أن الحياة بائسة ولا أمل لها ولا لوليدها الصبي ، وفي أوقات كانت تشعر أن إبنتيها (بعمر 2، 5 سنوات) هما من الشياطين وكانت تهذي وخائفة ، وقد نصح طبيب التوليد الأسرة اللجوء لطبيب نفسي فوراً ولكن لم يفعلوا ، وذهبوا لشخص إدعى أنها ملبوسة من الجن، وبدأ في سلسلة من الطقوس لإخراج الجن منها، وشمل هذا الضرب ، وصدمها بالكهرباء ، وبعد عدة أيام أغلقت الأبواب على نفسها وأطفالها الثلاثة في المطبخ وفتحت الغاز وتوفيت وأطفالها.

ما هو رأي الإسلام في موتها وقتلها لأطفالها؟
ما هو رأي الإسلام في الأسرة التي لم تقبل الرأي العلمي؟
ما هو رأي الإسلام في المعالج (الشيخ) الذي عذبها وربما أعطاها الدفعة الأخيرة للموت؟

النظرة الشرعية المعاصرة:-

من المقاصد التشريعية حفظ النفس، وقد وضع الإسلام التشريعات الكفيلة بحفظ الأنفس بطريق الإيجاب أو السلب ، أما حفظها بطريق الإيجاب فيكون بإيجاب ما تحتاج إليه لبقائها من طعام وشراب وكساء ودواء، قال تعالى)) وكلوا وإشربوا ولا تسرفوا))1 وقال صلى الله عليه وسلم(( تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له دواء غير داء واحد ، الهرم))2،وأوجب القصاص على القاتل ، قال تعالى(( يا أيها اللذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى))3 وقال تعالى ((ولكم في القصاص حياة ي أولي الألباب))4 وبإباحة ما يكون به كمالها على أحسن وجه من ألوان النعيم والزينة غير المحرمة والطيبات من الرزق قالت تعالى((قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق))5.
وأما حفظها بطرق السلب فقد حرم الإعتداء عليها بالقتل أو الضرب أو الإهانة، قال تعالى(( ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق))6 وقد حرم الإسلام على المرء أن يعتدي على نفسه بالقتل أو الإيذاء ، قال تعالى(( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً))7 وقال تعالى(( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة))8 ورتب على هذه الجريمة (الإنتحار) أكبر العقوبات فمرتكبها مخلد في نار جهنم شأنه شأن من كفر بالله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم((من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردّى فيها خالداً مخلداً أبداً، ومن وجأ بطنه بحديدة (في يده) فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً))9.

وقد نهى الإسلام عن تمني الموت ، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنياً للموت فيقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي))10
وأصل المسؤولية الجنائية أن يكون الشخص عاقلاً مدركاً لأفعاله مريداً لها، فلا تقع المسؤولية الجنائية على المجنون أو المعتوه أو المكرة، ففي الحديث ((رفع القلم عن ثلاثة:عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق)) وفي الحديث((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما إستكرهوا عليه)) .

------------------------------------
1 سورة الأعراف:31
2 أخرجه أبو داوود في السنن: كتاب الطب ، باب في الرجل يتداوى 4/192
3 سورة البقرة:179
5 سورة الأعراف:32
6 سورة الأنعام:151
7 سورة النساء:29
8 سورة البقرة:195
9 البخاري في الطب، باب شرب السم والدواء به رقم 5442 ،5/2179، ومسلم في اليمان،باب غلظ تحريم قتل الإنسان(105/،1/103
10 أخرجه البخاري في كتاب المريض رقم 5347/2146 ومسلم في الذكر باب تمني كراه الموت رقم 2679 ،4/2046

وترتفع المسؤولية الجنائية إذا إرتفع أحد أركانها فإذا إنعدم الإدراك أو إنعدمت الإرادة أو أصيب أحدهما بعلة، بحيث لم يعد الشخص مدركاً تمام الإدراك أو أضحت إرادته معيبة، فلا تقع عليه المسؤولية الجنائية وبالتالي فإن المسؤولية الدينية التي مدار التكليف فيها العقل والإدراك ترتفع عنه أيضاً.
وفقدان القوى العقلية قد يكون تاماً ومستمراً(الجنون المطبق) وقد يكون تاماً وغير مستمر( الجنون غير المطبق) وقد يكون جزئياً فيفقد الإنسان قدرة الإدراك في موضوع بعينه، ولكنه يظل متمتعاً بالإدراك فيما عداه وهذا ما يسمى بالجنون الجزئي ، وقد لا يفقد القوى العقلية تماماً ولكنها تضعف ضعفاً غير عادي بحيث لا يصل الإدراك في قوته إلى درجة الإدراك العادي للأشخاص الراشدين وهذا ما يسمى بالعته أو البله.

وجميع مظاهر فقدان الإدراك أو نقصانه يؤدي لإنعدام المسؤولية الجنائية، ومن الحالات التي تنعدم فيه المسؤولية ، الحالات العصبية التي يفقد فيها المرضى شعورهم وإختيارهم، كما يفقدون إدراكهم ويأتون بحركات وأعمال وأقوال لا يعونها ولا يدركون حقيقتها ، فهذه الحالات المرضية لم يتعرض لها فقهاء الشريعة، لأن العلوم النفسية لم تكن وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من التقدم ، ولكن قواعد الشريعة الإسلامية تبين لنا بوضوح حكم هذه الأفعال، فالمصاب بالهستيريا مثلاُ أو المريض بالملانخوليا الذي يتصور الأمور على غير حقيقتها ويدعوه هذا التصور المغاير للواقع إلى إتيان أمور لا مبرر لها هو ناقص الإدراك وناقص الإرادة فيما يأتيه ، وترتفع عنه المسؤولية الجنائية كما ترتفع عنه المسؤولية الدينية ، ولا تطبق عليه أحكام الإنتحار، ويأخذ نفس الحكم ذلك الإنسان الذي يقع تحت سلطان فكرة معينة، والشعور القوي الذي لا يدفع بالرغبة كمن يشعر أنه مضطهد أو أن أناساً يريدون قتله، ويأخذ نفس الحكم ذلك الشخص المصاب بإزدواج الشخصية فيظهر في بعض الأحيان بغير مظهره العادي وتتغير أفكاره ومشاعره ، وقد تتغير ملامحه ويأتي أعمالاً ما كان ليأتيها وهو في حالته العادية، ثم تزول الحالة الطارئة فلا يذكر شيئاً مما حدث له بعد أن يعود إلى حالته الطبيعية ، ، فمثل هذه الحالات والحالات النفسية المشابهة التي تبنى على خلل في الإدراك أو الإختيار لا يعتبر الشخص الذي يقع تحت تأثيرها مسؤولاً جنائياً أو مسؤولاً مسؤولية دينية ، ولا تطبق عليه أحكام الإنتحار التي وردت في الحديث الشريف.
بناء على هذا التأسيس فإن الأحكام الشرعية التي وردت في الحالات المذكورة يعتبر حكمها على النحو الآتي:
• الحالة الأولى: إذا كان المتوفى يعاني من إكتئاب شديد وإضطراب التفكير كما ورد في التقرير، فإنه لا يعتبر منتحـراً لأنه ناقص الإدراك والإرادة وعلى ذلك ينبغي أن يعامل كأي مسلم توفي بعارض قهري، فيغسّل ويصلّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين وندعوا له بالمغفرة .
• الحالة الثانية: السوابق الإجرامية المذكورة عن المتوفى وإستعمال المخدرات ودخوله السجن بسبب إرتكاب الجرائم أكثر من مرة وعلاقاته الجنسية قد أدت إلى إصابته بمرض الإيدز مما أعجزه عن القيام بتحقيق رغباته وشهواته ، فمثل هذه التصرفات لا تدل على نقصان في الإدراك أو الإختيار ، فقتله لنفسه يعد إنتحاراً، ونسأل الله أن يتوب عليه.
• الحالة الثالثة: لقد ورد في التقرير أن الرجل مصاب بمرض نفسي وهو إنفصام الشخصية ، يسمع أصواتاً و يتوهم وعنده إضطرابات في التفكير وهلوسة ، فمثل هذا ناقص الإدراك فلا يقع تحت طائلة المسؤولية الجنائية أو الدينية ولا يعتبر منتحراً، فيصلّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
• الحالة الرابعة : هذه المرأة مريضة نفسياً فهي مصابة بإكتئاب شديد ، وتتوهم أن أولادها من الشياطين ، فهي مريضة ناقصة الإدراك والإرادة فلا تعتبر منتحرة وتغسل ويصلّى عليها وتدفن في مقابر المسلمين .
أما أسرتها التي ذهبت بها إلى المشعوذين فهي مقصّرة آثمة بفعلها ونسأل الله تعالى لها المغفرة.
والمشعوذ لا يجوز أن نسميه شيخاً لأن لكلمة الشيخ معناها الإصطلاحي الذي يدل على الإحترام والتوقير وهو آثم عند الله عز وجل تجب معاقبته جنائياً ويخشى عليه من الكفر ويحتاج إلى التوبة.

الأستاذ الدكتور محمود السرطاوي الدكتور وليد سرحان
كلية الشريعة مستشار الطب النفسي
Reactions

تعليقات