إبراهيم كشت - نحن نحبُّ أن نستمع عادة إلى ما يلائم أفكارنا، أو يعبّر عما في نفوسنا، أو يوافق أمنياتنا ورغباتنا ، أما حين يكون الحديث منافياً لما نؤمن به ، فإننا ننفر منه منذ البداية ، أو نُحاكِمهُ بالاستناد لموقف مسبق فنرفضه . وهذا ما تلمسهُ حين تحاول أن تفنّدَ أكاذيب القائلين بالأبراج والأفلاك وتأثيراتها . مع أن معظم المؤمنين بها وجدوا الناس من حولهم مقتنعين بأمرها فاقتبسوا ذلك منهم ، دون نقد أو محاكمة عقلية ، ودون البحث عن العلاقة السببية بين جُرمٍ سماوي يحتاج ضوؤه إلى سنوات ليصل إلينا وبين صفات المولود وفشل الصفقات ومعرفة المستقبل . فإن جادلتهم قالـوا لك إن تأثير الأبراج عِلمٌ وليس خرافة ، دون أن يستندوا في ذلك إلى دليل ، اللهم إلا إذا كان دليلاً متهافتاً يفتقد أن المنطق السليم .
تأثير الأبراج ... خرافة قديمة جداً
يبدو أن الاهتمام بأبراج السماء وتقسيمها وتسميتها ومعرفة مواقع الكواكب والأرض منها، وربطها بالتأثير في حياة الانسان ، جاء كنوع من تَطوَّر التوجّه نحوها بالعبادة ، فقد ظهر هذا الاهتمام بأشكال النجوم ومراقبة اقتران الكواكب بها لدى العديد من الحضارات القديمة ، كقدماء المصريين ، وقدماء الصينيين ، وكانت الحضارة اليونانية أبرز من بَلْوَرَ الأصول والتفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع ، حتى ساد لدى الأقوام الأخرى في الشرق والغرب ، وقد أشار إليه ابن خلدون في مقدمته وانتقده بشدة ضمن فصل بعنوان (إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غاياتها) ، وأشار إلى أن تلك الصناعة تقوم على الظن ولا تستند إلى دليل وتنافي الدين وأنها (تضر بالعمران الانساني بما تبعث في عقائد العوام من الفساد ..) .
وأعتقد أن أهم ما ينبغي أن نتذكره ونحن نتحدث عن قدم ظهور الاعتقاد بالأبراج وتأثيراتها ، وما ارتبط بها من تفاصيل ورسومات لمواقع النجوم والكواكب وزواياها وحساباتها ، أقول أن ما ينبغي أن نتذكره هو أن الأقوام التي اهتمت بهذه الأمور الفلكية وافترضت تأثير مواقع النجوم والكواكب ، كانت شديدة الجهل بحقيقة الأرض والقمر والشمس والأجرام الأخرى السماوية، فهي لم تكن تتصور حجم تلك الأجرام ، وعظم المسافات بينها ، كما أنهم كانوا يحسبون الأرض مركز الكون ، ولم يكونوا يعتقدون بكرويتها أو دورانها .. والجهل كما نعلم يخلق الغموض ، ومن طبيعة الانسان أنه يضع افتراضات لتفسير الغموض ثم يصدقها .
هذه النجوم ... ليست في هذه المواقع
يستند القائلون بتأثير الأبراج والأفلاك في صفات الإنسان وحياته ومستقبله في إدعاءاتهم وتنبؤاتهم ـ وفقاً لما يذكرون ـ إلى اقتران الكواكب بمجموعة من النجوم هي البرج ، حيث يتحدثون عن اثني عشر برجاً ، كل منها عبارة عـن مجموعـة مـن النجوم اتخذت شكلاً معيناً (الجدي ، الحوت ، الحمل .. إلخ) ، أي أنهم يتحدثون عن موقع الكواكب من تلك النجوم في فترة معينة أو وقت محدد ، ويبنون على ذلك الاقتران بين الكوكب والبرج تأكيداتهم لصفات المولود وعلاقته بمواليد الأبراج الأخرى ، وحظّه في يوم أو شهر أو عام معين ، كما يعتمدون على هذا الاقتران في تنبؤهم بالمستقبل .. !
ومع الاحترام لمن يستندون لما تقدم أو يؤمنون به ، فإنه مُجمله قائم على الجهل ، لأنه ينافي حقيقة علمية ثابتة ومقنعة ، وهي أن النجوم التي نراها في هذه اللحظة في موقعٍ معين ليست موجودة الآن في هذا الموقع أبداً ..! نعم فقد كانت هناك في ذلك الموقع قبل مليون سنة أو ملونين أو عشرة ملايين أو ربما مليار سنة أو أكثر أو أقل . فأقرب مجرة إلى الأرض مثلا ً تبعد عنا مليوني سنة ضوئية ، أي أن ضوء أي نجمة في تلك المجرة استغرقت مليوني سنة أو أكثر لتصل إلى أنظارنا ، بمعنى أننا حين ننظر إلى تلك النجمة فإننا نراها في الماضي ، أي نـرى موقعها قبل مليوني سنة ، ولا شك أن موقعها هذا قد تغير الآن ، وربما خبا ضوؤها وانطفأت جذوتها او انفجرت بكل ما فيها ، فكيف بالله نتحدث عن تأثير تلك النجوم ومواقعها وهي ليست موجودة الآن في ذلك الموقع ، ولا ندري أين هي في الحقيقة ؟ وكيف نتحدث عن اقتران الكواكب بتلك النجوم وهي لم تقترن بها في الحقيقة وإنما اقترنت بأضواء ما وصلنا منها ، بعد أن استغرقت رحلة الضوء وقتاً طويلاً امتد لملايين السنين غالباً .
الاستدلال الخاطىء بتأثير جاذبية القمر
إن القائلين بأثر الأبراج والأفلاك والكواكب يستندون إلى إيمان كثير من الناس بادعاءاتهم، لذلك لا يجدون أنفسهم بحاجة لأن يثبتوا مزاعمهم ، فتسليم الناس بأقوالهم دون تفكير ناقد أعفاهم من مشقة الإثبات وعبء تقديم البرهان ، لكنهم إذا سمعوا من يكذّب معتقداتهم أتوا بجزئيات صغيرة لا تثبت حقيقة ولا تدفع باطلاً ، حيث تسمعهم يستندون مثلاً إلى أن للقمر جاذبية تؤثر في البشر لوجود نسبة عالية من المياه في جسم الإنسان ، على النحو الذي يؤثر فيه القمر في البحر مُحدثاً المدَّ والجزر ! ولنا أن نتساءل هنا هل هذه المقولة البسيطة الجزئية المحدودة المتعلقة بالقمر القريب نسبياً من الأرض والتابع له ، يترتب عليها أن للكواكب الأخرى والنجوم رغم بعدها مثل هذا التأثير ، وهل يصل تأثير جاذبية القمر إلى الدرجة التي يصقل فيها شخصية الإنسان ويحدد علاقاته وسعده ونحسه ؟ هل يقودنا وجود تأثير لجاذبية القمر إلى القول بأن ثمة كوكبٌ يحكم العقل والفكر وكوكب آخر يرتبط بالأخلاق وكوكب ثالث يربط المولود بمجتمعه أو بذاته ، أو أن موقع ذلك الكوكب ينبؤنا بزلزال أو انفجار أو هبوط أو صعود في أسعار البورصة؟ إلى آخر هذه الأقوال التي يدّعون بها توسيعاً لفكرة جاذبية القمر وتحمليها ما لا تحتمل ، والقياس عليها رغم انتفاء العلة التي يستند إليها القياس ، وفساد النتيجة التي يتم التوصل إليها .
لا تشتَمُّ من حديث
الفلكيين رائحة العلم أبداً ..!
ثمة برامج تلفزيونية عديدة تستمع فيها لأشخاص اشتهروا على نطاق واسع ، يسمّون أنفسهم فلكيين أو علماء فلك ! يحدثون الناس عن حظوظهم وعلاقاتهم ومستقبلهم ، ويجيبون على أسئلة المشاهدين فيتوقعون لهم الصحة أو الاعتلال ، والنجاح أو الاخفاق في الصفقات ، والاتفاق أو الشقاق مع الشريك ، كل ذلك بناء على يوم مولد السائل ، وقد تمتد توقعاتهم لتشمل تنبؤات اقتصادية وسياسية وبيئية على مستوى المجتمع أو الدولـة أو الاقليم أوالعالم كله ..! زاعمين أنهم يستندون إلى حسابات فلكية . ورغم ذلك لا تسمع فيما يذكرونه عن النجوم والكواكب شيئاً فيه قبس من علم الفلك ، أو نفحة من علوم الفضاء ، لا يحدثونك عن أجرام السماء وأحجامها والمسافات بينها والمجرات وأعدادها وتكوينها وما يطرأ عليها ، أو عن السدم والثقوب السوداء وما إلى ذلك ، وإنما يتحدثون عن مواقع وأشكال للنجوم عفا الزمن عليها ولم تعد لها قيمة . ولو أن الإنسان ظل يقول بها ويعتمد في علمه عليها لما غزا الفضاء ولا حطّ على القمر ، ولا أرسل مركباته إلى المريخ وأقمار المشتري .
ويقولون لك أن موضوع
الأبراج علم يدرس في الجامعات ..!
أجل ، فما أن تقول للمؤمنين بأثر الأبراج أو إمكانية التنبؤ بواسطتها إن حديث الأبراج محض أقوال متوارثة ، لا تستند إلى علم ولا يقبلها منطق ، حتى يهبّوا لإجابتك : لكنه علم يدرّس في الجامعات وتمنح فيه الشهادات ، وفيه متخصصون وعلماء ..!
ما أعرفهُ هو أن موضوع الأبراج كان يُدرَّس في الجامعات الأوروبية قبل القرن السابع عشر ، ثم استُبعِدَ بعد أن بدأت تنتشر الحقائق العلمية حول كروية الأرض ودورانها حول الشمس، وما إلى ذلك مما يدحض الظنون القديمة التي قامت تصوراتها على أساس أن الأرض مركز الكون وأن الشمس والأفلاك تدور من حولها . وربما كان لتعزيز المنهج العلمي في البحث بعد جاليلو ونيوتن إضافة إلى عدد من الفلاسفة الذين مهدوا للمنهج العلمي دوراً في ذلك .
وأعرفُ بطبيعة الحال أن ثمة معاهد تدرس مواضيع الأبراج والأفلاك ومزاعم التأثيرات الناتجة عن حركتها، وتمنح شهادات في ذلك ، ولا شك أنها تجني أرباحاً طائلة ، لأنها تمنح شهادة سيجني صاحبها من ورائها الكثير من المال . ولا أدري ربما كانت بعض الجامعات الخاصة تدرس هذه المواضيع ، لكنها بالتأكيد لن تكون هارفرد أو أكسفورد أو كامبرج أو ستانفورد أو سواها من الجامعات المعتبرة .
يدّعون أن تنبؤات المنجمين تصدق ..!
ما يحدث هو أن المتنبئين بواسطة الأبراج يطلقون كل عام مئات التوقعات ، ولأننا نعيش حياة زاخرة بطبيعتها بآلاف الأحداث من كوارث وحروب ووفيات وتَبدُّل في الأحوال ، ولأن توقعات المتنبئين تحمل غالباً صفة العمومية وتبتعد عن التحديد الدقيق ، ولأنهم عادة ما يتمتعون بذكاء يساعدهم على التوقع ، فإن بعض توقعاتهم قد تصدق ولكن أكثرها يخيب ، وأَنْ تصدق بعض توقعاتهم تلك ، أمر يتناسب مع طبائع الأشياء والوقائع في الحياة ، وقواعد الاحتمالات في الرياضيات ، وكلما زاد عدد التوقعات التي يطلقونها زاد احتمال تحقق بعضها من قبيل الصدفة .
أشدّ ما يؤلم
في موضوع الاعتقاد بتأثير الأبراج
ثمة حقائق متعددة تؤلم المرء فيما يتعلق بموضوع الاعتقاد بأثر الكواكب والأبراج وحركتها في حياة الإنسان ، وسجاياه وطبائع نفسه ، ومزاجه الرائق أو المكدّر ، ونجاحه أو فشله، وحُسْنِ أو سوء طالعه ، وربحه أو خسارته ، وانجذابه أو نفوره من أشخاص معينين ، وانسجامه مـع زوجته أو اختلافه معها ، وبالظن أحياناً بقدرة تلك الأبراج على التنبؤ ، واختراق حُجُب الغيب ، واستشراف المستقبل أو توقع أحداثه ! والحقيقة الأولى المؤلمة هي أن يُربَطَ هذا الأمر بالعلم ، والعلمُ منه براءٌ . والثانية أن يكون عدد المقتنعين بموضوع الأبراج وأثرها كبيراً ، وأن تكون كتبها هي الأكثر مبيعاً في العالم ، بل وأن تخصِّصَ عدة محطات تلفزيونية برامج للردِّ على استفسارات المتشوِّقين لمعرفة حظوظهم واستشراف مستقبلهم بواسطة الأبراج ، مـن خلال تاريخ ولادتهم أو من خلال معلومات أخرى . والحقيقة الثالثة المؤلمة أن يصير موضوع الأبراج ومعرفة (خفاياها) وحفظ السِّمات المزعومة لصاحب كل برج، والاستفسار مـن المتحدث عن برجه ، ومحاولة توقّع برج الشخص الآخر ، أن يصير كل ذلك وكأنه نمط من الأحاديث المرغوبة التي تشير إلى الفهم والمتابعة والعمق ، أو تشير إلى انتماء المتحدث فيها إلى طبقة راقية مثقّفة !
تعليقات
إرسال تعليق