خالد عاشور - أحضروه قرب الفجر، وكنا نغط في نوم عميق. الضوء الخافت الذي تسرب من فتحة الباب مع الصوت الذي صدر عنه حين دفعه العسكري داخل الزنزانة جعلنا نستيقظ، تكوم على الأرض أمامنا ينزف من فمه وفتحتي أنفه، نظرنا إليه من دون أن نتكلم، خشينا أن ينالنا عقاب، سبه العسكري بأمه وأغلق الباب بترباس حديدي كبير واضعًا عليه قفلاً ضخمًا أصدرت «تكَّته» وهو يغلقه صوتًا مدويًا، انزوى هو في ركن بالزنزانة مقوسًا جسده الهزيل متكورًا على نفسه في وضع جنيني، لم يصدر عنه صوت، وخشينا أن يكون قد أصابه ضرر، ذهب بعضنا يستكشفه، حين لمسه أحدهم قام فزعًا في هياج يصرخ:
- لا.. لا.. كفاية ضرب.
سحبوا أنفسهم متراجعين وقد عاد كل إلى مكانه.
في الصباح أيقظونا للتمشية، خرجنا جميعًا إلا هو، رفضوا خروجه، سحبه مجندان من تحت إبطيه من دون أن يقاوم، رأيناهما يجرانه في طرقة المعتقل، قدماه عاريتان وجسده النحيل مستسلم للشد، اختفيا به مع انحناءة الطرقة.
في المساء أحضره مجندان آخران، كانا يسحبانه من تحت إبطيه أيضًا، رائحة الدم أزكمت أنوفنا وقد امتلأت بها ملابسه الممزقة من أثر الضرب. دفعوا به إلى الزنزانة في عنف، فتكوم على وجهه مرتطمًا بأرض الزنزانة فاقدا للوعي، قال أحدهما في نبرة سخرية:
- «كل يوم من ده. عامل فيها جدع. استحمل لو تقدر. قولتوا تغيير. آدي التغيير يا روح أمك».
أحسسنا به ينتفض. اقتربنا منه. اهتز جسده في عنف، بعدها أفرغ ما في معدته وتكوم لاهثًا. كنت الأقرب إليه، تحسسته في حذر، كانت أنفاسه قد هدأت واسترخى جسده النحيل، خفت أن يكون قد مات. وضعت يدي على صدره، كان يلتقط أنفاسه في صعوبة، ملت عليه وسألته:
- جاي في إيه؟
لم يرد، نظرت إلى من معي وكانوا في أماكنهم يخشون الاقتراب منه. يده كانت بجيبه لا يخرجها. قلت أرى ما بها، أخرجتها وحاولت أن أفك قبضته المضمومة بعنف، كان بها خاتم فضي تحسسته في هدوء حين أخرجته من جيبه، انتبه لي فقام فزعًا ينتفض:
- لا.. إلا هي.. إلا هي.
عدت إلى مكاني وراقبته وهو يعيد يده إلى جيبه وهو لايزال قابضًا عليه.
في الصباح تكرر المشهد. هذه المرة سحبه أربعة جنود. رفعوه كالميت من أطرافه، واختفوا به في نهاية الطرقة.
سمعنا من أحد المعتقلين الذين أتوا معه في ساحة المعتقل أنه قبض عليه في المظاهرات الأخيرة ضد النظام، قال إنه كان مسئولًا عن الهتافات. ضحك وهو يخبرنا أنه شاعر يجيد كتابة الهتافات. هذه كل تهمته، وحين سألناه عن سبب مجيئه هو الآخر، قال في ضيق:
- «كنت فايت جنب المظاهرات. قلت أقف أشوف، محسوبكم بيحب الفرجة، قبضوا عليّ وجابوني معاهم. مراتي حامل في أيامها الأخيرة، وأحلف لهم إن ماليش في السياسة، أبدًا ميصدقوش».
- طيب وصاحبك؟
- «ولا أعرفه. أنا شوفته بيهتف بسقوط النظام. كان بيردد (عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية)، عجبني الكلام. وقفت اتفرج، ركبونا كلنا في عربية واحدة. قال لي إنه دكتور في كلية فنون جميلة. حكى لي في السكة عن الفساد والبلد اللي بتنهار. مفهمتش حاجة. ولما جينا هنا مشوفتوش تاني».
بالليل أحضروه، هذه المرة كان فاقدًا للوعي. يده مازالت بجيبه وقبضته ممسكة على شيء لا تتركه رغم ما به، اقتربنا منه، كان الدم غزيرًا يتدفق من فمه، انتفض للحظة وسكن جسده نهائيًا، صرخ أحدنا في هلع:
- مات.. مات.
قمنا جميعًا من أماكننا، رحنا نضرب على الباب الحديدي للزنزانة مصدرين صوتًا عاليًا كسر سكون المعتقل، دقائق وجاء المأمور برفقة عدد من العساكر، أمر الحارس أن يفتح الباب، وقال في هدوء:
- «إيه..؟ فيه إيه»..؟
قلت وأنا أرتجف:
- الراجل مات.. مات يا بيه.
نظر نحوي في سخرية وقال مخاطبًا مرافقيه:
- «ابعتوا إشارة للمستشفى تيجي تاخده. وخليهم يظبطوا تقرير الوفاة، مش ناقص قرف».
أغلقوا الزنزانة ومضى المأمور يتبعه العسكر.
عدت إليه، سحبت يده من جيبه وفككت قبضته، وقع الخاتم الفضي منها، نظرت إليه في الضوء الخافت وكان محفورًا عليه اسم «حرية»، ربما كان اسما لزوجته أو خطيبته أو محبوبته، أخفيته في جيبي حين سمعت أقدام الحرس تقترب، فتحوا الباب ورفعوه، قال أحدهم قبل أن يغلقه:
- «أي كلب هايفتح بقه هايحصله».
سكتنا جميعًا. سحبوا الجثة ومضوا في هدوء، نظرت من كوة الزنزانة ورأيتهم يسيرون عبر الطرقة حتى اختفوا في نهايتها. عدت إلى مكاني وتمددت، أمسكت الخاتم في يدي وظللت أتحسسه شاردًا حتى الصباح.
تعليقات
إرسال تعليق