د. سائد دبابنة- ليس من الضرورة, من حيث المبدأ, توفر خامات تجارية لليورانيوم في أي بلد يتجه إلى بناء برنامج لإنتاج الكهرباء من محطات نووية, ولكن البرنامج النووي الأردني خصوصاً عول من الاساس, وبسبب محدودية مصادر التمويل, على توفر مثل هذه الخامات, وتم الإعلان تكراراً عن الاعتماد على تعدين اليورانيوم وبيع الكعكة صفراء في الأسواق العالمية لدعم تغطية تكاليف إنشاء المحطات النووية, بل تجاوز الامر ذلك إلى الحديث عن توفير مورد إضافي كبير لدعم خزينة الدولة.
نورد هنا كمثال ما نقل عن هيئة الطاقة الذرية في عام 2009 عن بيع وإنتاج 2000 طن من الكعكة الصفراء بقيمة تبلغ حوالي 1.250 مليار دولار سنوياً.
استندت هذه الاستراتيجية على دراسات سابقة أجرتها سلطة المصادر الطبيعية, تبعها استقدام مجموعة من الشركات العالمية قامت بالاستكشاف في مناطق امتيازها لمحاولة تأكيد النتائج السابقة, تمهيداً لبدء عمليات التعدين إن ثبتت جدواها.
لقد ورد في ملاحق الاتفاقية الموقعة مع شركة أريفا الفرنسية, التي صدرت كقانون أردني مؤقت فيما بعد, أن تحليلات المختبرات الفرنسية لم تؤيد نتائج الاعمال السابقة لسلطة المصادر الطبيعية, وأهمها ما كان يعتقد بوجود 65 ألف طن من معدن اليورانيوم في منطقة الامتياز وسط المملكة (سواقة وخان الزبيب وما حولها).
الملاحظ أنه حتى بعد ورود تقارير أريفا النهائية, وتقرير الشركة البريطانية التي دققت نتائج أريفا, وكلها لا تتفق مع الأرقام القديمة لسلطة المصادر الطبيعية, رغم ذلك, استمر الاعتماد في التخطيط للمشروع النووي على تلك النتائج القديمة المشكوك بصحتها, وظلت تتكرر إعلامياً, وحتى وقت قريب.
لا بأس في هذا السياق من ذكر بعض التفاصيل: ورد في ملاحق الاتفاقية (القانون المؤقت) كشرط ملزم للدخول في دراسة الجدوى الاقتصادية, وجود أكثر من 20 ألف طن من معدن اليورانيوم بتراكيز أعلى من 250 جزء بالمليون.
يتم باستمرار إغفال هذا الشرط الواقعي, وبالتالي اعتماد حد أدنى منخفض للتراكيز مخالف للإتفاقية (45 جزء بالمليون مثلاً), وذلك لتضخيم الكميات (12 ألف طن), ومقارنتها مع العشرين الف طن المطلوبة حسب الاتفاقية. إن هذه المقارنة لذلك مغلوطة وغير منسجمة وبعيدة جداً عن الواقع.
تم لاحقاً التعاقد مع شركة SRK البريطانية, لتدقيق عمل أريفا وإعادة تقويم خامات اليورانيوم في وسط المملكة. لوحظ إساءة استخدام هيئة الطاقة الذرية لبعض أرقام تقرير SRK لاحتياط اليورانيوم, وبشكل بعيد عن سياق التقرير, وغير معقول, مثل ذكر 108 الاف طن من المخزون.
إن ذلك لا يكون الا باعتماد تراكيز متناهية الصغر تصل إلى حدود 1 جزء بالمليون! وهذا غير مقبول من الناحية العملية وحسب المعايير الصناعية إطلاقاً, ولا يمكن الاعتماد عليه للتعدين, لا إقتصاديا ولا بيئياً ولا مائياً.
إن المعلومات المتوفرة كذلك تفيد, بأنه إذا تم الالتزام بالحد الواقعي والقانوني الملزم, وهو 250 جزءا بالمليون, الذي يتم باستمرار إغفاله, فإن ذلك يعني أن ما هو موجود من معدن اليورانيوم في وسط المملكة كمية صغيرة جداً مقارنة بالأرقام المعلنة. لذلك فإن المباشرة بتعدين هذه الكميات الضئيلة غير وارد كونه أقل بكثير من العشرين ألف طن اللازمة للدخول في دراسة الجدوى.
اضافة إلى أريفا, قامت شركة ريوتنتو بأعمال استكشاف اليورانيوم في جنوب المملكة, وقدمت تقاريرها التي خلصت إلى التوصيات التالية للتشغيل الاقتصادي للمنجم المفترض:
1- تراكيز اليورانيوم الاقل من 250 جزءا بالمليون تعتبر سالبة, وهذا يتفق مع ما أوردناه أعلاه.
2- اكتشاف مستقبلي (لم يتحقق في عمل ريوتنتو) لكميات أضخم وبتراكيز أعلى "بكثير" مما تم استكشافه لغاية تاريخه.
3- تطوير مستقبلي لتقنيات استخراج الخامات قليلة التركيز كالموجودة في منطقة الاختصاص.
4- إفتراض ارتفاع مستقبلي لأسعار اليورانيوم. وبناء على كل ذلك إنسحبت الشركة من المشروع. يتضح مما سبق, وحسب نتائج أعمال شركات عالمية متخصصة أجرت قياساتها في هيئة الطاقة الذرية الأردنية إضافة إلى مختبراتها الخاصة في بلدها, أن كميات اليورانيوم الموجودة ذات تراكيز متدنية جداً, مما يوجب استخدام كميات كبيرة من المستهلكات الكيماوية والمياه والكهرباء, وكذلك التعامل مع حجم أكبر من الخام, مما يزيد كثيراً في التكاليف المالية والبيئية والمائية للإستخراج.
من المهم جداً كذلك الانتباه مبكراً, والتخلي عن الاغفال, للتكاليف المترتبة على إعادة تأهيل موقع المنجم, علماً أن عمر المنجم الافتراضي (إن وجد) قصير جداً.
لقد ورد عن هيئة الطاقة الذرية مؤخراً إشارات تدعم ما ورد أعلاه من عدم جدوى التعدين, من دون إعلان صريح, كالقول مثلاً أن "اليورانيوم يجب إبقاؤه في أرضه للأجيال القادمة"!
خلاصة القول: يجب الإعلان بشفافية عن كمية معدن اليورانيوم القليلة المتوفرة بتراكيز واقعية تتفق مع الاتفاقية والقانون, وهذه المعلومة موجودة ويسهل حسابها فوراً من ذات المعطيات التي حسبت منها الأرقام المبالغ فيها والمعلنة سابقا. يجب التعامل فوراً مع الواقع كما هو, ومتابعة الجهود على كافة الصعد مستقبلاً, وعدم اللجوء إلى المبالغات لأنها توفر معلومات مغلوطة تضلل وجهتنا نحو التخطيط السليم لمشاريعنا التي لا يمكن بناؤها اعتماداً على آمال غير مستندة إلى الواقع, ولا يجوز التمسك بمعطيات تجاوزها الزمن, ولم تثبت الدراسات الحديثة صحتها.
تعليقات
إرسال تعليق