القائمة الرئيسية

الصفحات




عسكرتاريا: عسكرة المجتمع

من المعروف أن حقبة الحرب الباردة، أنهت عزلة المؤسسة العسكرية عن قضايا المجتمع المهمة.

 ففي أعقاب هذه الحرب انضم إلى صفوف الخدمة المدنية في الحكومة وقطاع الأعمال الكثير من العسكريين السابقين.

ومن هنا، نشأت علاقات عمل حميمة وعميقة بين قطاع الأعمال التجارية وبين جنرالات الجيش.
 ومما لا شك فيه أن توسيع آفاق الثقافة العسكرية مع تبني مناهج منفتحة في العلوم والفن قد لعبت دورا كبيرا في الأكاديميا العسكرية، فيما لو علمنا أن كثيراً من الأساتذة المدنيين شاركوا في التعليم في الكليات والمعاهد العسكرية.

وبالمقابل، فقد تمَّ إرسال الكثير من العسكريين لتدريس الدراسات المتقدمة في المعاهد والكليات المدنية في مختلف الحقول.


لقد هيمنت المؤسسة العسكرية على المجتمع العربي ومقدراته. وهذه الهيمنة دفعت المجتمعات المتعاقبة إلى صرف جزء كبير من ميزانيتها على الجيوش وتدريبها وتسليحها.

في العصر الحديث، ظهرت ما أُطلق عليها «العسكرة» MILITARIZATION ويعترف بعض الدارسين، أنه من الصعب إيجاد تعريف دقيق لهذه الظاهرة. ولكن يمكن القول إنها عملية تتضمن توسيع نطاق المؤسسة العسكرية داخل المجتمع.

 والعسكرة بهذا الاعتبار ظاهرة ديناميكية، تتغير مع الزمن كلما تغيَّر دور العسكريين. والتعريف الآخر، هو الذي يبدو أكثر شمولا، ويشير إلى أنها توجهٌ عام في دولة ما، يصاحبه وجود مجموعة من المؤسسات، تعتبر الحرب والاستعداد للحرب نشاطاً مجتمعياً طبيعياً، ومرغوباً فيه.

وهناك كمية من مؤشرات عدة، يمكن من خلالها معرفة حجم وأبعاد ظاهرة العسكرة في أي مجتمع. وبعض هذه المؤشرات سياسي واستراتيجي، مثل:

- عدد الانقلابات التي قد حصلت في دولة ما في فترة ما، وطبيعة هذه الانقلابات، وتوجهها.

- عدد الفترات التي حكمت فيها المؤسسة العسكرية، وطول هذه الفترات .

- طبيعة الحروب التي خاضها أي نظام في أي مجتمع.

- عدد أفراد القوات المسلحة، ونسبة هذا العدد إلى نسبة عدد السكان الإجمالي.

- عدد المرات، والمدى الذي تمَّ به استخدام المؤسسة العسكرية من أجل قمع حركات العصيان المدني، أو التمرد الشعبي.

- نسبة الإنفاق العسكري إلى إجمالي الإنفاق الحكومي أو الناتج المحلي الإجمالي. 

- قيمة المشتريات العسكرية العامة والمستوردة من الخارج.

- مقدار حجم الصناعات العسكرية في الداخل.

ولكن يجب عدم أخذ هذه المعايير على علاّتها. وهي كمؤشرات منفردة، قد تكون مضللة بما فيه الكفاية. ولكنها قد تصلح مجتمعة كمؤشر جيد. ولو قارنا مثلاً مؤشر العبء العسكري، أي حصة الإنفاق العسكري من الناتج القومي لعام 1988 في مناطق الشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية، وجنوب آسيا، والشرق الأقصى، لوجدنا أن العبء العسكري لأميركا اللاتينية، هو أقل هذه الأعباء، رغم أن كافة المعايير الأخرى تدلُّ على أن أميركا اللاتينية فيها أعلى درجات العسكرة في العالم. ويؤكد الباحث عبد الرزاق الفارس، «ان أميركا اللاتينية سجَّلت أكبر عدد من الانقلابات العسكرية، في أقصر مدة» (السلاح والخبز، ص 106-108).


ويميل بعض الباحثين من أمثال صموئيل هينتنجتون في كتابه (العلاقات المدنية - العسكرية) إلى القول «إن للمجتمع العسكري ضرورات وظيفية للقيام بها في مجتمعات بلدان العالم الثالث خاصة. وهي ضرورات لا تستطيع الإدارة المدنية القيام بها لعدم تأهلها الإداري والعلمي. وأن المؤسسة العسكرية أقدر من أية مؤسسة أخرى على القيام ببناء المجتمعات في دول العالم الثالث. وهينتنجتون في الواقع يتبنى هذه المقولة من خلال واقع المؤسسات العسكرية في الغرب، وخاصة في أميركا، وهي المؤسسات التي تعتبر من أكبر ومن أكثر مؤسسات الدولة تنظيماً، وعلماً، ودربة، وخبرة في مختلف المجالات. ومن هنا، يعود هينتنجتون ليؤكد لنا، أن قدرة الجيش على تطوير وتحقيق مستوى عال من العسكرية المهنية والمحافظة على الأخلاقيات العسكرية، تعتمد على طبيعة المجتمع الذي ينشأ فيه هذا الجيش. (CIVIL-MILITARY RELATIONS, P 7).


فما هي خصائص وطبيعة «المجتمعات» العربية عامة، التي نشأت فيها العسكرتاريا العربية؟

حليم بركات، المفكر السوري الأصل، وأستاذ علم الاجتماع في جامعة جورج تاون في واشنطن، يلخِّص خصائص وطبيعة المجتمعات العربية في كتابه (المجتمع العربي في القرن العشرين) على الوجه التالي:

- نصف المجتمع العربي متخلف، يعاني التبعية، منذ اندماجه في النظام العالمي الرأسمالي.

- توجد في المجتمع العربي ظاهرة البنية الطبقية الهرمية، والفقر، وتزايد التفاوت بين الطبقات.

- وجود التعددية الاجتماعية، أو شدة التنوع من حيث الانتماءات والعصبيات القبلية، والطائفية، والعرقية، والجهوية، أو المحلية.

- طغيان الدولة التسلطية على هذا المجتمع. وهذه الدولة هي الشكل الجديد للدولة المستبدة السابقة الإقطاعية، والسلطانية، والبيروقراطية، والتي جاءت عن طريق اختراق المجتمع المدني.

- يتصف المجتمع العربي تقليدياً بالأبوية البطريركية، والنزوع إلى الاستبدادية على مختلف المستويات. فيعاني فيه الإنسان سلطوية الأنظمة السائدة، وأزمة المجتمع المدني.

- يتصف المجتمع العربي بأنه مرحلي - انتقالي - تراثي تتجاذبه الحداثة والسلفية. وهو يعيش حالة مواجهة وصراع بين قوى متعددة ومتناقضة. وهو لم يستقر بعد على هوية، وعقيدة، وقضية، ونظام، وغاية.

- تتصف العلاقات الاجتماعية في المجتمع العربي بالشخصانية، وبتغليب مفهوم الجماعة على الفرد. وأن الولاء للجماعة كثيراً ما يتعارض مع الولاء للمجتمع أو الأمة، وكثيرا ما يتم على حساب الإنسان الفرد.

- المجتمع العربي تعبيري، وعفوي، في توجهه الثقافي، وإن تكن له مكبوتاته ومحرماته، التي يأنف منها الناس، أو يتخوَّفون من التحدث حولها علناً، خاصة في مجالات الدين، والسياسة، والجنس. («المجتمع العربي في القرن العشرين»، ص 19-41).

إن مقولة هينتنجتون عن مجتمعات بلدان العالم الثالث ممكن أن تكون صحيحة لو أن المؤسسات العسكرية في العالم الثالث، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، كانت على مستوى التدريب والعلم والدراية التي لدى المؤسسات العسكرية الغربية، بحيث تقوم هذه المؤسسات العسكرية بما لم تستطع المؤسسات المدنية في العالم الثالث أن تقوم به.

طبيعة وخصائص المجتمعات التي أنبتت العسكرتاريا ولكن الجيوش العربية نشأت في مجتمعات عربية ذات خصائص وصفات، من أهمها:

1- ضعف الطبقة الوسطى السياسي، وضعف قواها المدنية، وأحزابها بسبب حداثة عهد المجتمع العربي بالظاهرة الحزبية، ثم بسبب غياب المؤسسات الاجتماعية الحديثة والمنظمة. وهكذا بدت المؤسسة العسكرية، هي الأكثر تنظيماً وعقلانية وقوة في المجتمع العربي، والأقدر على إدارة شؤون الحكم الذي مزقته الصراعات الحزبية. 

2- فساد الحياة السياسية، في مصر في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وهشاشة التجربة الليبرالية في سوريا، وعدم وجود حياة سياسية ليبرالية في باقي العالم العربي - ما عدا لبنان - مما أدى إلى عدم توفير دور سياسي للطبقة الوسطى يناسب حجمها. وعندما توفر هذا الحجم، لم يتوافر من خلال المجتمع والأحزاب، ولكنه توافر من خلال سلطة الدولة. وهكذا، راحت الأحزاب السياسية العربية، تتصل بالمؤسسة العسكرية، لإحداث تغيير سياسي أو اجتماعي، أو لقلب نظام الحكم.

3- فشل المؤسســـة السياسية في ملء الفراغ الســـــــــياسي بعد الاستقلال ورحيل الاستعمار الأجنبي. وانتشار الفساد المالي والإداري في هذه المؤسسة. وهو ما يُعبَّر عنه «بتصدع بنيان النخبة المدنية الحاكمة، مما يترتب عليه الهبوط بمستوى الفعالية النظامية إلى أدنى مستوى، وبالتالي نفاذ صبر الجماهير، واستنفار القوى السياسية والاجتماعية، ووضع المجتمع كله على شفا الفوضى والعنف، كما يشير مجدي حمّاد في كتابه (العسكريون العرب وقضية الوحدة، ص 278). وكما حدث في تونس مؤخراً. 

د. محمد شاكر النابلسي


Reactions

تعليقات