«وكأنك تحمل صحيفة المتلمس!»، مثل يُضرب لمن يقود نفسه إلى حتفه، أو يسعى لأمر يضره، من دون أن يفطن لذلك، وقد يكون لجهل منه أو لحمق به، فليس كافياً أن يكون الإنسان مشهوراً، أو ذا منصب وجاه ليكون ذكياً فطناً.. فما قصة هذا المثل؟
كان جرير بن عبد العزى الضبعي، الملقب بالمتلمس الضبعي، شاعرا جاهليا، وكان ينتمي إلى قبيلة ضبيعة - إحدى قبائل ربيعة - ولقب بالمتلمس لبيت من شعر قال فيه:
«وذاك أوان العُرّض حيَّ ذبابه
زنابيره والأزرق المتلمّسُ»
كان المتلمس شاعراً مشهوراً في زمانه، ولكنه واضح من مجريات هذه الحكاية، أنه أميّ لا يقرأ ولا يكتب، فقد أتى هذا الشاعر مع ابن أخته طرفة بن العبد إلى عمرو بن هند ملك الحيرة، فنزلا في ضيافته يريدان لقاءه والفوز بعطاياه، فكانا يركبان معه للصيد فيركضان وراءه طول النهار حتى يتعبا، وكان عمرو يشرب فيقفان عند بابه النهار كله، فلا يصلان إليه.
وذات يوم ضجر طرفة من طول الانتظار، فهجا الملك في قصيدة، فلما بلغ ذاك عمراً همَّ بقتله، لكنه خاف من هجاء المتلمس له، فقال لهما: لعلكما اشتقتما لأهلكما؟ فقالا: نعم، فكتب لهما بصحيفتين وختمهما، وقال لهما: اذهبا إلى عاملي في البحرين، فقد أمرته أن يصلكما بجوائز.
انصرف الشاعران، وهما يمنِّيان نفسيهما بهدية مجزية، وفي طريقهما مرّا بشيخ يحدث نفسه، (أي يريح نفسه)، ويأكل تمراً ويقصع قملاً، فقال له المتلمس: ما رأيت شيخاً أحمق من هذا! فقال الشيخ: ما رأيت أنت من حمقي؟ فإنني أُخرج خبيثاً، وأُدخل طيباً وهو التمر، وأقتل عدواً وهو القمل، إنما الأحمق هو من يحمل حتفه بيده وهو لا يدري.
واصل الأخوان سيرهما، وقد استغرب المتلمس من قول الشيخ، وفي طريقهما صادفا غلاماً، فقال له المتلمس: أتقرأ يا غلام؟ قال: نعم، ففض له الصحيفة، فإذا بعمرو بن هند قد كتب فيها: إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً. فقال لابن أخته طرفة: فض كتابك لتعلم ما به، إلا أنه أبى، وقال له: إن الملك لا يأمر لي إلا بخير، وذهب به إلى عامل البحرين فنفّذ فيه ما تضمّنه الخطاب من عقاب.
أما «صحيفة المتلمس» فقد أصبحت مثلاً لمن لا يعلم أنه يحمل أمر موته بيديه، ولمن يصرّ على رأيه فيكون فيه حتفه، فقد فتحه المتلمس فنجا، ولم يفتحه طرفة فقُتل.
• ملحوظة: .
تعليقات
إرسال تعليق