التوحد اضطراب نمائي يشخص دون الثالثة من عمر الطفل ويصيب خمسة أطفال من بين كل 10 آلاف طفل. ويتميز بوجود خلل في التواصل والتفاعل الاجتماعي وخاصة في اللغة المنطوقة والتعبيرية، بالإضافة إلى وجود سلوك تكراري مقيد. ويحدث هذا الاضطراب في الذكور بمعدل ثلاثة إلى أربعة أضعاف معدله بين الإناث.
ويتميز الطفل الذي يعاني من هذا الاضطراب، بعدم اكتسابه اللغة السليمة، أو أنه اكتسب اللغة ثم تدهورت لديه حتى فقد القدرة على التعبير، أو صار يستعمل الكلمات والضمائر والجمل بشكل غير سليم. وتلاحظ الأم غالبا أن طفلها لا يتفاعل معها ومع الآخرين كما يفعل الأطفال الذين هم في عمره، فعواطفه باردة، وإذا غابت عنه أمه أو حضرت فلا تجد لديه افتقادا لها أو انفعالا لرؤيتها عند عودتها.
أما عند ضمه أو تقبيله فلا تجد الأم من الطفل إقبالا عليها، فهو بشكل عام فاقد للاستجابة لمشاعر الآخرين نحوه ولا يتفاعل معهم بالشكل المتوقع ولا يتبادل معهم الإيماءات الطبيعية. أما من ناحية اللغة فتلاحظ الأم ومن حولها أن الطفل يفتقد إلى المهارات اللغوية سواء من ناحية استخدام الأفعال أو الضمائر أو تركيب الجمل، فهو قد يستخدم ضمير "أنت" مكان "أنا"، وقد يركب الجملة بشكل عكسي، فبدلا من أن يقول "أنا أريد أن آكل" يقول "آكل أريد أنت".
كما أن الطفل لا يستطيع البدء بالكلام أو الاستمرار فيه أو المتابعة المنطقية له، بل يحتاج المتحدث معه إلى التكرار وإثارة انتباهه دوما حتى يستجيب لغويا. ثم إن المترادفات لديه قليلة وقاموسه اللغوي ضحل وقليل. ويلاحظ أيضا انعدام قدرته على الخيال أو الإبداع في التفكير، وتلاحظ الأم كذلك عدم استجابته الحسية لدرجة أنها تظن أحيانا أنه أعمى أو أصم، كما قد لا يشعر بالألم إذا سقط أو ضُرب أو أصيب إصابة ما. أو تجد أن عتبة الألم لديه عالية لدرجة أنه يحتاج إلى استفزاز مؤلم شديد القوة لينفعل كما يجب.
محدودية في الأنماط
وتلاحظ الأمهات أيضا أن هذا الطفل لديه محدودية في الأنماط السلوكية والاهتمامات والأنشطة، فهو يركز على نوع واحد من السلوك أو النشاط أو الاهتمام، فهو مثلا يجلس بشكل محدد ويقوم بحركات معينة وبشكل تكراري ممل وبطريقة نمطية ثابتة. وهو يتضايق إذا تغير ذلك أو فرض عليه سلوك أو نشاط جديد، فهو متصلب في هذه الناحية ولا يبدي أية مرونة ولديه طقوس معينة لا يحيد عنها، فهو مثلا يأكل بنمط معين كأن يستخدم صحنا محددا أو أداة محددة ولا يمكن أن يأكل من دونها.
وقد يجلس الطفل على مقعد معين لا يجلس على سواه، أو يأخذ معه إذا دخل الحمام لقضاء حاجته شيئا معينا من الألعاب أو الألبسة أو أدوات المطبخ مثلا. ويلاحظ أيضا ارتباطه بأشياء أخرى كارتباطه باللون أو الرائحة أو الملمس. فهو مثلا لا ينام إلا إذا أمسك وسادة معينة ووضعها تحت رأسه أو تحت قدمه أو مررها على وجهه أو على بطنه أو شيء من ذلك.
ويلاحظ أيضا أنه يعاني من رهاب وخوف من بعض الأشياء أو الأماكن أو النشاطات، ويلاحظ أن نومه مضطرب وأكله مضطرب كذلك، وتشعر والدته بالانزعاج عند نومه أو أكله لما يفرضه عليها من إجراءات نمطية وسواها. ويصاب أحيانا كثيرة بتغييرات غريبة في المزاج فهو يدخل أحيانا في نوبات غير متوقعة من البكاء أو الضحك أو الصراخ أو العدوانية ومن دون سبب أو منطق ويصعب إخراجه منها.
وأحيانا يلاحظ ميله نحو إيذاء نفسه كأن يقوم بعضّ رُسغه أو هز رأسه بشكل مؤذٍ أو بمعط شعره أو بحك شيء من جسمه بطريقة شرسة. ويلاحظ ارتباطه بالأشياء أكثر من ارتباطه بالأشخاص وكذلك بالأشياء التي تدور بشكل محوري أكثر من الأشياء التي لا تدور، فقد يلتفت مثلا إلى مروحة موجودة في السقف تدور ويبقى محملقا فيها مدة طويلة من الزمان، أو يلفته شيء يتحرك صعودا وهبوطا. وأحيانا قد يعاني هذا الطفل من زيادة في الحركة الذاتية لديه أو من قلة في الحركة لدرجة الهمود. وأحيانا قد يعاني من تبول لا إرادي أو إخراج للبراز بشكل غير منضبط. وكل هذه الأعراض قد تظهر جميعا وقد يظهر بعضها وقد يكون واحدا منها أو أكثر مسيطرا على الصورة المرضية لدى الطفل.
ذكاء متفاوت
أما من ناحية الذكاء والقدرات العقلية فقد بينت الدراسات التي أجريت على المصابين بهذا المرض أن 70% من الأطفال هؤلاء يتمتعون بمعدل ذكاء دون الطبيعي أي دون السبعين، و50% منهم يتمتعون بمعامل ذكاء دون الخمسين، و25% يتمتعون بمعامل ذكاء طبيعي. ويتم إجراء فحص الذكاء من خلال أسئلة ومهارات وغالبا ما يجرى هذا الفحص في سن متأخرة للطفل بحيث يمكن التعامل معه بشكل أفضل.
وقد بيّنت الدراسات أيضاً أن 25% من هؤلاء الأطفال يعانون من الصرع الكبير الذي يتميز بوجود نوبات من فقدان الوعي الكلي وتشنجات في عضلات الجسم وسقوط على الأرض وخروج زبد من الفم وتبول قسري أثناء النوبة. وبعضهم يعاني من الصرع الصغير الذي لا يترافق بأي نوع من التشنج وإنما يحدث فيه فقدان سريع للوعي وحركات لا إرادية في الفم وعدم السيطرة على الأشياء المحمولة في الأيدي.
وقد بينت الدراسات أن هؤلاء الأطفال الذين يعانون من التوحد معرضون أكثر من غيرهم للإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي وكذلك بالتهابات الجهاز الهضمي من ناحية الإصابة بالإمساك أو الإسهال، بالإضافة إلى تعرضهم لنوبات من الحرارة المترافقة بتشنجات. وقد تبين أن حوالي 2% فقط من هؤلاء يصبحون مستقلين في المستقبل ويستطيعون العمل والزواج، وأن نسبة كبيرة منهم تبقى لديهم الطقوسية والتكرارية في السلوك بعد البلوغ. وتظهر علامات التحسن لدى الأطفال الذين يتمتعون بمعامل ذكاء طبيعي وبخاصة عند بلوغهم السابعة من العمر، ولكن الأطفال الذين يعانون من تخلف شديد لا تظهر عليهم أية علامات للتحسن ويبقون عالة على أهليهم وعلى المجتمع طوال حياتهم.
هل هناك أسباب واضحة للإصابة بهذا المرض؟
لقد حاول العلماء منذ زمن طويل البحث عن أسباب إصابة الأطفال بهذا الاضطراب، ودرسوا الظروف العائلية وصفات الوالدين وطريقة التربية وظروف الحمل وظروف الولادة وتناول الأدوية والمطاعيم، وأجروا أيضا فحوصات للدماغ والجهاز العصبي والغدد وغيرها للبحث عن سبب يمكن ربطه بهذا المرض فلم يتوصلوا إلى شيء له علاقة، وكل ما يقال عن هذا الموضوع هو مجرد افتراضات لم تثبت صحتها.
العلاج وكيفية التعامل مع المرض
لا يوجد لهذا المرض علاج محدد، بل يقوم الطبيب بعلاج الأعراض الناتجة عن هذا المرض، فإذا كان المريض يعاني من قلة النوم أعطي علاجات لذلك، وإذا كان لديه فرط حركة عولج ذلك، وإن كان لديه عنف أو عصبية أعطي بعض الأدوية المهدئة، وإن كان لديه صرع عولج الصرع بمضادات الصرع، وإذا أصيب بأي اضطراب ذٌهاني أعطي مضادات الذهان وهكذا.
أما من ناحية التعامل فلا شك أن الأهل الذين لديهم طفل توحدي يعانون معاناة شديدة من ناحية سلوكه وعدم استجابته لوسائل التربية الطبيعية التي يستخدمونها مع غيره من الأطفال وبخاصة إذا كان هذا الطفل يعاني من التخلف العقلي. فهو يحتاج إلى تأهيل وتدريب سلوكي وإلى تواصل اجتماعي وإلى تعديل في اللغة وتدريب في جميع المجالات، ويحتاج الأهل إلى استشارة الأطباء النفسيين والاختصاصين السلوكيين من أجل تحسين حالة طفلهم والتعامل معه بشكل ملائم أثناء الطفولة.
أما بعد البلوغ فيصبح المريض عبئا كبيرا عليهم وبخاصة إذا كان مصابا بالصرع أو بالتخلف العقلي الشديد, إذ إن القدرة على التواصل اللغوي تكون شبه معدومة وقد يصاب بعضهم بأعراض ذهانية كالأوهام الاضطهادية أو أوهام السيطرة والمتابعة ويتصرفون مع من حولهم انطلاقا من هذه الأوهام، أو قد يعانون من الهلاوس السمعية والبصرية والحسية التي تزيد حالتهم سوءا وتفصلهم بشكل كبير عن عالم الناس وتجعلهم يزدادون "غرابة إلى غرابتهم الأصلية". وفي مثل هذه الحلات يضطر الأطباء إلى استخدام الأدوية المعقلّة التي يسيطرون من خلالها على هذه الأعراض الذهانية.
الجزيرة
تعليقات
إرسال تعليق