يعد لويس التاسع الملك الفرنسي الوحيد الذي تناثرت جثته ودُفن رفاته في مناطق مختلفة؛ إذ يوجد قلبه بمنطقة سان دوني الفرنسية، في حين دُفن جزء من بقايا جسده بجزيرة صقلية.
أما بالنسبة لهيكله العظمي، فقد وُزع بين عدة كاتدرائيات ومدارس دينية ومتاحف في أوروبا وشمال إفريقيا، كما تناثرت عدة أجزاء أخرى من جسده في مناطق غير معروفة، على غرار عظم العضد والأسنان.
في الحقيقة، إذا أردنا جمع أجزاء الهيكل العظمي للويس التاسع، فيجب علينا أن نركض آلاف الكيلومترات لجمع رفاته؛ لأن الأمر سيكون أشبه بسباق ماراثوني.
ويلقبه الفرنسيون أيضاً بالقديس لويس، وُلد في أبريل/نيسان 1214، وتوفي بتونس، وكان ملكاً على عرش فرنسا بين عامي 1226 و1270، كان من أشهر ملوك فرنسا الذين قادوا الحملات الصليبية، ومات خلال إحدى تلك الحملات في تونس.
ويصادف يوم 22 مايو/أيار عام 1271 من كل عام ذكرى وصول رفات لويس التاسع إلى كاتدرائية سان دوني الفرنسية، ليتم دفنه وسط ضجة كبيرة.
وكان من بين الذين يحملون تابوت لويس التاسع خليفته على كرسي العرش، فيليب الثالث، فضلاً عن بقية أشقائه.
وقد حضر مراسم الدفن كبار شخصيات المجتمع الفرنسي ورجال الدين وكل أطياف المجتمع. وفي الأثناء، اكتظت ساحة الكاتدرائية بعدد كبير من الوافدين لتشييع جثمان الملك.
وفي خضم هذه الأجواء، رفض رئيس الدير فتح الأبواب؛ نظراً لأن رئيس الأساقفة وكبير القساوسة كانا يرتديان حلتهما الكهنوتية ولم يستعدا بعدُ لارتداء الملابس الخاصة بطقوس الدفن المقدسة.
وبعد مفاوضات طويلة مع الأساقفة، تدخَّل فيليب الثالث ليجبر القساوسة على التنازل عن ارتداء الملابس الخاصة بطقوس الدفن وإدخال جثمان لويس التاسع إلى باحات الكاتدرائية.
في المقابل، اضطر فيليب الثالث إلى تحمل عواقب تسرعه؛ إذ أُجريت طقوس دفن لويس التاسع على لوح حجري عادي لا يليق بملك.
انسلاخ اللحم عن الهيكل العظمي
في واقع الأمر، لا يمكن إطلاق مصطلح "جثمان" على جثة الملك الفرنسي الراحل التي قدمت من شمال إفريقيا، فلم يتبق منها سوى كيس من العظام.
وفي حال رغب الفرنسيون، آنذاك، في استعادة جثمان ملكهم كاملاً، كان عليهم القيام بعملية التحنيط، على الطريقة المصرية، إلا أن الفرنسيين كانوا يجهلون تماماً طريقة القيام بذلك.
وقبل نقله إلى فرنسا، وُضع شقيق لويس التاسع، كارلو الأول، أمام خيارين؛ إما دفن شقيقه كما هو في تابوته، وإما دفنه في أرض تونس المسلمة دون العودة به إلى بلاده.
والجدير بالذكر أن الجزء الوحيد القابل للنقل نحو فرنسا كان العظام، في حين وقع تسليم كل من القلب والأحشاء للجراحين بغية حفظهما بعناية داخل جرّتين.
أما بالنسبة لباقي الجسد، فقد وُضع داخل قدر مملوءة بالنبيذ والماء المالح، وتم غلي جثة الملك الفرنسي إلى أن انسلخ اللحم عن الهيكل العظمي.
ثم جففت العظام تحت أشعة الشمس، ليتم فيما بعدُ وضعها بعناية داخل حقيبة جلدية، في حين حُفظ اللحم داخل جرة محكمة الإغلاق.
في النهاية، كان جثمان الملك الفرنسي قبيل وصوله إثر رحلة طويلة إلى فرنسا، وتحديداً إلى كاتدرائية سان دوني، يقتصر على حقيبة جلدية وجرة.
ولسوء حظ الملك الفرنسي، لم تصل بقايا جثته كاملة إلى فرنسا؛ إذ وُزعت عدة أجزاء من لحمه على مناطق مختلفة في أوروبا.
فتم دفن لحم جثة لويس التاسع في مدينة باليرمو الإيطالية، وتحديداً بكاتدرائية "مونريالي"، ولم يصل سوى القلب وبقايا الهيكل العظمي إلى مدينة باريس، التي انطلقت بها مراسم دفن الملك الفرنسي، أو بالأحرى ما تبقى منه.
سرقة بقايا جثة الملك المقدس
خلال العصور الوسطى، أعلنت الكنيسة الفرنسية أن الملك لويس التاسع "ملك مقدس"، لذلك تعد بقايا جثمانه ضمن "الآثار المقدسة" التي قد يطمع فيها التجار واللصوص.
ومخافة أن تتم سرقته، رغب حفيد لويس التاسع عام 1298، في دفن رفات جده داخل ضريح ووضعه بإحدى قاعات القصر الذي ترعرع فيه؛ وذلك بهدف حمايته من النهب.
ولكن لتحقيق هدفه، كان لا بد من موافقة البابا، الذي لم يعارض شريطة أن يدفن عظم ساق أو عظم يد الملك الميت في دهليز كاتدرائية سان دوني.
من جانبه، رفض رئيس الكاتدرائية اقتراح البابا، وبقي رفات لويس التاسع في سان دوني. ومع حلول عام 1305، تولى قسيس جديد منصب البابا، وقدم مقترحاً كان من شأنه أن يرضي الطرفين، أي قساوسة الكاتدرائية وحفيد الملك الفرنسي، تمثّل في إعطاء الجمجمة إلى الحفيد مع الحفاظ على كل من الفك، والأسنان، والذقن في دهاليز الكاتدرائية.
وبالفعل، حصل حفيد لويس التاسع على جمجمة الملك عام 1306، ومن المرجح أنه، وفي السنة نفسها، تمكنت فرنسا من استعادة قلب لويس التاسع من باليرمو، لتبادر بدفنه في كنيسة سانت تشابيل بباريس.
وخلال القرن الخامس عشر، أضحى رفات لويس التاسع عبارة عن هدية تُقدم لإرضاء إما عدو وإما صديق، فقد تلقى ملك النرويج عظام أصابع لويس التاسع كهدية من فرنسا، في حين حظي بعض النبلاء من مقاطعات باريس وريمس، بالإضافة إلى رؤساء أديرة مسيحية، جزءاً من رفات الملك الفرنسي، كما نالت ملكة السويد، فضلاً عن الإمبراطور شارل الرابع، نصيباً من رفات لويس التاسع.
وفي مطلع عام 1392، وُضع ما تبقى من عظام الملك الفرنسي في ضريح آخر، قبل أن يتم توزيعها على 3 شخصيات مهمة، فقد حظي البابا بجزء من العظام، في حين قُدم جزء آخر منها إلى الدوق دو بيري، ليحصل في النهاية دوق بورغندي على جزء ثالث العظام.
كما وصل جزء من عظام لويس التاسع إلى الأرملة ماريا دي ميديشي، بعد أيام من اغتيال زوجها هنري الرابع ملك فرنسا، ولكنها أعادتها عشية تنصيب نجلها لويس الثالث عشر ملكاً على فرنسا.
وبعد مرور 6 سنوات، تلقت الملكة الفرنسية، زوجة الملك لويس الثالث عشر، آنّ النمساوية، التي لم تتجاوز 15 سنة آنذاك، عظم يد لويس التاسع.
لم يبقَ من رفاته سوى الفك
مع دخول الثورة الفرنسية منعرجاً خطيراً عام 1793، قام الثوار الفرنسيون بنهب أضرحة كاتدرائية سان دوني، ونتيجة لذلك، وضع الثوار أيديهم على ما تبقى من رفات لويس التاسع في سان دوني وقاموا بصهره.
وفي الوقت الحالي، لم يبق من رفات الملك الفرنسي سوى فكه الذي تم حفظه ضمن كنوز كاتدرائية نوتردام بباريس، أما باقي رفاته، وخاصة ما تم منحه في شكل عطايا وهدايا، فقد فقدت كلياً.
تعليقات
إرسال تعليق