غريغوري يافيموفيتش راسبوتين، معالج روحاني متصوف، وُلد في قرية بوكروفسكوي الريفية الواقعة في سيبيريا، وكان له تأثيرٌ كبير على العائلة الملكية الروسية، خاصةً الإمبراطورة ألكسندرا، زوجة القيصر نيقولا الثاني، التي استعانت براسبوتين لعلاج ابنها أليكسي من مرض سيولة الدم "الهيموفيليا".
كانت حياة راسبوتين غريبة بكل تأكيد، ولكن القصص المتعلقة بوفاته تُعد هي الأغرب على الإطلاق، وفقاً لما ذكرت صحيفة The Guardian البريطانية.
من المعروف أنه ذات ليلة ذهب راسبوتين إلى قصر يوسوبوف في مدينة سان بطرسبرغ بدعوةٍ من الأمير فيليكس يوسوبوف، وبعدها بأيام تم انتشال جثة راسبوتين من نهر نيفا المتجمد. لا أحد يعلم تماماً ما الذي حدث بين هاتين الواقعتين.
مذكرات الأمير
تفاصيل هذه القصة جاءت على لسان الأمير يوسوبوف نفسه من خلال مذكراته "Lost Splendour"، لكن هذه السيرة الذاتية كانت بمثابة قصة طفل عن مغامراته الخاصة أكثر من كونها مستنداً تاريخياً موثوقاً، وتحوم الكثير من الشكوك حول مدى مصداقية ما كتبه. وفقاً ليوسوبوف، عندما وصل راسبوتين إلى القصر، تم أخذه إلى القبو، حيث تم تقديم الكعك والنبيذ الأبيض له.
وفي الدور الأعلى، تم تشغيل موسيقى فيلم "Yankee Doodle Dandy" على جهاز غرامافون؛ لإيهام الراهب بأن هناك حفلة صاخبة بالقصر.
خطط يوسوبوف وشركاؤه كل الأمور بحرصٍ شديد. قطع الكعك التي قُدمت لراسبوتين كانت تحتوي على مادة سيانيد البوتاسيوم السامة بكميةٍ كافية لقتل دير ممتلئ بالرهبان، ولكن راسبوتين استمر في تناولها. ونظراً لشعوره بالشك في قدرة الراهب على النجاة، صب الأمير يوسوبوف بعضاً من النبيذ الأبيض في كأسٍ يحتوي على السيانيد، وقدمه لراسبوتين. وبدلاً من أن يفقد الوعي خلال ثوانٍ، وهو الشيء المتوقع بعد تناول جرعة هائلة من السيانيد، استمر راسبوتين في شرب النبيذ بكامل وعيه.
وتناول راسبوتين كأساً قاتلةً ثانيةً، بلا تأثيرٍ واضح سوى شعوره بصعوبةٍ في البلع. وبسؤاله عما إذا كان يشعر بأنه ليس على ما يرام، أجاب "نعم، أشعر بثقل في رأسي، ولدي شعور بالحرقان في معدتي".
الكأس الثالثة من النبيذ المسمَّم بدت وكأنها أعادته للحياة مرة أخرى! وبعد تناول راسبوتين لكل كمية السيانيد المتاحة لهم، لم يعرف منفذو عملية قتله ما الذي يجب أن يفعلوه بعد ذلك!
ولذلك أطلقوا النار عليه.
بدت الرصاصة وكأنها اخترقت جسده واستقرت بجانب القلب، وهو ما يعني موته في الحال، أو كما اعتقدوا. ولكن، وبعد قليل، فتح راسبوتين عيناه، وكان مضطرباً بسبب تصاعد الأحداث؛ ليقوم بمهاجمة يوسوبوف. ودخل الرجلان في صراعٍ شرس، قبل أن يتمكن الأمير من تخليص نفسه والهرب إلى الدرج، ليتبعه راسبوتين.
انتقل الصراع في النهاية إلى الفناء، حيث أُطلقت 4 رصاصات أخرى على راسبوتين، قبل أن ينهار على الأرض. ولتجنُّب حدوث مفاجآتٍ جديدة، قام القتلة بتغطية الجثة، وربطها بقطعةٍ من الكتان الثقيل، ووضعت في سيارةٍ، واتجهوا بها إلى جزيرة بتروفسكي، حيث تم إلقاء الجثة من أعلى كوبري إلى النهر المتجمد بالأسفل.
في إحدى النزاعات خلال القرن السادس عشر، تلقى رجل طعنةً نافذة في القلب، لكنه نجح في الركض لمسافة 230 ياردة لملاحقة خصمه، قبل أن ينهار. ربما كان راسبوتين ما زال على قيد الحياة وقادراً على القتال بعد الطلقة الأولى، ولكن ماذا عن السم؟ بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يتناول هذه الكمية من السيانيد دون أن يتأثر قليلاً!
نظريات علمية مثبتة
عدد النظريات التي تفسّر لماذا لم يقتل السيانيد راسبوتين مساوي تقريباً لعدد النظريات التي تحدثت عن كيفية موت راسبوتين أصلاً، والمثير للدهشة هو أن هذه النظريات مثبتة علمياً.
النظرية الأولى تفترض أن الأشخاص الذين وضعوا السم لم يقوموا بعملهم بالشكل الأمثل. إما لم يستخدموا كميةً كافية، أو أن السيانيد الذي استخدموه كان قديماً وفاسداً وفقد تأثيره. ورغم أنها تبدو نظريةً مقبولة، فإنه من المستحيل إثبات صحتها بعد مرور قرن على حدوث الواقعة.
النظرية الثانية تفترض أن راسبوتين، الذي كان يدرك أن هناك من يدبر لقتله ونجا بالفعل من محاولة اغتيال واحدةٍ على الأقل، قرر حماية نفسه من السم. ربما استوحى الفكرة من ميثريداتس السادس، ملك منطقة البنطس في القرن الأول قبل الميلاد، الذي كان خائفاً من أن يتم تسميمه، وتناول ترياقاً واقياً، ثم قام بتناول كمياتٍ شبه قاتلة من كل السموم التي يعرفها حتى يتمتع بمناعةٍ ضدها. وعندما كان ميثريداتس مهدداً بالقتل من عامة الشعب، حاول الانتحار بتناول السم، ولكن المحاولة باءت بالفشل، ليضطر إلى أن يطلب من حارسه أن يقتله بالسيف.
يمكن للجسم بالفعل أن يتمتع بمناعةٍ طبيعية، أو قدرة على تحمل بعض المواد السامة، عن طريق تناول كمياتٍ صغيرة جداً منها على فتراتٍ من الوقت (بالطبع هذه ليست نصيحة للقيام بذلك بنفسك لمقاومة السموم). بعض هذه المركبات السامة تشمل سم الأفعى، والريسين، والأفيونات، على سبيل المثال لا الحصر. ولسوء الحظ، السيانيد ليس واحداً من هذه المواد. إذ لا يمكنك أن تتمتع بمناعة طبيعية ضد السيانيد باستخدام هذه الطريقة.
النظرية الثالثة تفترض أن راسبوتين كان يعاني من مرض التهاب المعدة الكحولي، الذي يمكن أن يؤدي إلى إفرازٍ أقل لحمض المعدة. ودون حمض المعدة لا يمكن أن يتحول سيانيد البوتاسيوم إلى سيانيد الهيدروجين، وبالتالي يصبح أقل سُميةً. وهذا تفسيرٌ مقبول آخر، ولكن لا أحد يعلم حقاً هل كان يعاني راسبوتين من هذا المرض أم لا.
النظرية الرابعة تفترض أن القتلة قاموا بإعطاء راسبوتين ترياقاً مع السم دون قصد. وأظهرت بعض الدراسات أن الفئران التي تناولت السكر مع السيانيد قاومت السم بشكلٍ أفضل من الفئران التي تناولت السيانيد فقط.
هذه النظرية، التي لم تثبت صحتها، تفترض أن السكر يتفاعل مع السيانيد بطريقةٍ تؤدي إلى إخراجه من الجسم قبل أن يتم امتصاصه بشكلٍ كامل. وربما أخطأ القتلة الاختيار عندما قرروا تقديم السيانيد مع الكعك المُحلَّى والنبيذ.
النظرية الأخيرة تفترض أن يوسوبوف اختلق هذه القصة بأكملها، وأن راسبوتين قد أُطلق عليه النار بعد فترةٍ قصيرة من وصوله إلى القصر بواسطة شخص أو أشخاص مجهولين. وهذا الافتراض يبدو الأقرب إلى الحقيقة، ولكنه ليس بنفس القدر من الإثارة كبقية القصص عن هذا الراهب الذي يرفض الموت!
تعليقات
إرسال تعليق