طالبت نتائج الدراسات التي توصلت إليها التربية الحديثة، أن يعطى الطفل حق الكلام والمعارضة وإبداء الاقتراحات.. فشخصيته لا تبنى في فراغ، ولكن الكثيرين من الآباء...
طالبت نتائج الدراسات التي توصلت إليها التربية الحديثة، أن يعطى الطفل حق الكلام والمعارضة وإبداء الاقتراحات.. فشخصيته لا تبنى في فراغ، ولكن الكثيرين من الآباء في حالة صراع مع أنفسهم، كيف يعاملون أطفالهم.
وهناك من ينادي باحترام شخصية الطفل، فحريته في حدود ممارساته تجري بما لا يخرج على المألوف، ولا يتعارض مع رغبات الجماعة، ولا يسبب مساسا بحقوق الآخرين. وهناك من يقول: كفانا ما عانينا في طفولتنا من أساليب القسوة والكبت والجهل، لندع أطفالنا يتصرفون بحرية وبغير قيود، إننا نريد أن نعطي أطفالنا ما حرمناه، فلنتركهم يعانقون الحياة كما يريدون، وليتعلموا من أخطائهم.
وتبقى مشكلة التأديب قائمة، وإن كان خبراء التربية يتفقون على أن التأديب بالغ الصرامة أو شديد الليونة، كلاهما سيئ النتائج، فالطفل الذي ينشأ على قواعد صارمة يعاني في كبره من نتائج القمع والضغط وإلغاء دوره، فيعجز عن التكيف مع طبيعة الحياة وعناصرها، والطفل المدلل ينشأ اتكالياً وأنانياً لا يرى إلا مصالحه الشخصية، وما يحقق أهواءه ورغباته، فهو ضعيف الإرادة أمام ما يستهويه لأنه عبد لرغباته.. والحالتان بما فيهما من خطورة، أفضل من أولئك الآباء الذين تتعاقب عندهم القسوة والصرامة مع الليونة والتدليل، لأن الطفل في هذه الحالة لا يعرف أين مكانه، ولا كيف يتصرف لينال رضا والديه.
ومن الحكمة في التربية أن نعامل أولادنا على نمط واحد، فالطفل لا يستطيع أن يواجه الآراء المتضاربة، ولا بد من بناء القناعات الواضحة لكل موقف نتخذه، فنفسر لهم مواقفنا وقراراتنا بما يتمكن الطفل من فهمه، فهذا يعزز من فهمه للمرغوب من السلوك، ويقربه من أبويه، فلا توجد أوامر، بل مواقف تستدعي قرارات مفسرة واضحة، وعلينا أن نفهمه عند كل موقف مناسب بأن للحرية حدوداً، وأن تجاوزها ضرب من الفوضى، والأساس في التعامل معه هو تقبل ما هو حسن، وتوجيهه لتلافي الأخطاء وكيفية تصحيحها إن وقعت، وليكن التوجيه مبنياً على أساس حاجات الطفل النفسية والعضوية والعاطفية من غير إسراف أو تطرف أو مزاجية أو تردد.
يقول رونيه أوبير: إن التربية بين الأب وابنه تعتمد على مبدأ تغلغل وعي في وعي آخر ولن يكون ذلك ممكناً، إلا إذا كان الكائن الذي يحاول أن يمارسه يحمل في نفسه منشورة منفتحة، بحيث يتبدى قدوة أو مثالاً، يجد فيه المتعلم صبواته الشخصية مروية، أو يتحسسها على أقل تقدير، فليس من تربية خلاقة فعلاً وهي تظهر وعياً جديداً ليس له جذور في الكائن نفسه.
وننبه إلى أنه كلما شعر الطفل بحب والديه بذل جهوداً كبيرة في تحقيق طلباتهما ورغباتهما، والعكس صحيح، فالأب الذي يضع نفسه موضع الناقد المستمر لسلوك طفله، ويفرض عليه أفكاره ليتصرف بوحيها يجعل طفله يتشبث بطريقته الخاصة في الحياة مما يسبب لوالديه خيبة أمل.. فالأم التي تقول لابنتها: هل تسمحين بترتيب فراشك؟. يكون قولها هذا أعمق أثراً من الأم التي تقول لابنتها: يجب أن تكوني مرتبة وتنظمي فراشك.. لأن العاطفة تساند الأمر الأول وتخاطب الشعور وتسعده، بينما يهبط الأمر الثاني بالشعور ويؤلمه، والأمر الأول يتحدث بلغة الصداقة، والثاني يتحدث بلغة جافة ومنفرة.
إن قيمة الحب في المعاملة هي أنه أعمق أثراً وأسرع استجابة في التوجيه والإرشاد، وفي إطار هذا الحب يتمثل الولد مبادئ والده، وينجح في الأخذ بمبدأ الواقعية مختاراً، وبذلك تتحول التوجيهات إلى قواعد خاصة، وتكون جزءاً من فلسفة الحياة، وبالحب سيتعلم كيف يترك اللعب لينصرف إلى المذاكرة في الوقت المناسب، وسيتعلم أن القيود التي كان يحس أنها مفروضة ومزعجة، قد نضجت وأصبحت عادلة، لأنها تهدف لخيره وخير مجتمعه، وقد ينتج عن ذلك أن يؤدب الطفل نفسه بنفسه.
إن التربية المعاصرة لا تدعو لحرية مطلقة كما يفهمها البعض، فهي لا تنادي بإطلاق تحركات الطفل في المنزل يحطم ويدمر، فلا يقف في وجه نشاطه الجارف وطاقته الزائدة أي عائق، بل تنادي بتهيئة المنزل بحيث يتمكن الطفل أن يعبر فيه عن ذاته، ويجد مخرجاً لنشاطه وطاقته، وأن تتاح له الفرص التي تكفل له المران الذهني والجسمي، وتكفل له الشعور بذاته، وبقيمته بين الجماعة، حتى تنمو نفسيته نمواً سليماً، وتتحقق له تربية بعيدة عن القهر والزج، تعمق لديه ضوابط داخلية تنظم سلوكه، وتحد من جموح طاقاته ورغباته، لتضعها في المسار التربوي الصحيح، والمنسجم مع القيم والمبادئ والتقاليد السائدة في المجتمع.
ولنضع في حسابنا دائماً أننا لسنا الوحيدين المؤثرين في توجيه أولادنا اليوم، بل يشاركنا في هذا رفاق الحي والمدرسة والمذياع ووسائل التواصل الاجتماعي والرائي والمسرح والصحف والنادي والمسبح ودور العبادة والمنظمات الرياضية والشبابية والمجتمع وغيرهم، ويلخص ذلك بأن الواقع الاجتماعي الحديث وتفاعل البيئات، وتطور معطيات الحضارة فرضت دورها وأثرت في تربية الطفل وتوجيهه.
وغني عن التأكيد أن هدف كل أب حكيم، أن تكون رحلة عمره مع زوجته وأولاده مرحة ممتعة بالحب تفيض بالعاطفة، ومزهرة الأماني، مثمرة النتائج مضيئة المستقبل، بدلاً من أن تكون رحلة قاسية وعرة. ويجب أن تكون جسور المودة ممدودة بينه وبين أبنائه، وأن يكون التواصل والتواد والتفاهم والوئام والعاطفة يظلل جو الأسرة، لأن القدرات الشخصية والمعارف والمهارات والمشاعر الطيبة لا تبنيها الأوامر والبلاغات، بل تبنيها القناعات والفهم المتبادل المبني على حقائق ناضجة ثابتة، وأهداف واضحة وواقعية، وصداقة سعيدة ومبهجة بين الأب وأبنائه وبين أفراد الأسرة جميعاً.
وأمثل طريق لتحقيق ما أسلفناه في مساعدة أطفالنا على التكيف مع الحياة، هو أن نفهم نحن أولاً الحياة.. لنكون قادرين على تحمل عبء مسيرة العمر في توجيه أولادنا وإرشادهم إلى مسالك الحياة الآمنة المفعمة دائماً بالخير والسعادة والنجاح.
تعليقات
إرسال تعليق