كنتُ طفلاً عبقريًّا، كما وصفني أساتذتي في المدرسة، كانوا يتعامَلون معي معاملةً خاصةً جدًّا، باعتباري فَلتةً لن يكرِّرها...
كنتُ طفلاً عبقريًّا، كما وصفني أساتذتي في المدرسة، كانوا يتعامَلون معي معاملةً خاصةً جدًّا، باعتباري فَلتةً لن يكرِّرها الزمان.
أذكرُ جيدًا يوم أنْ زار مَدرستَنا وفدٌ تعليميٌّ، وكتبَ أحدُ الأساتذة على السبورة معادلةً رياضية معقَّدة، احمرَّتْ وجوه تلاميذ الصف جميعًا عجزًا وحيرةً، بينما رفعتُ أنا يدي، ثمَّ قمتُ، فكتبتُ خطواتِ الحلِّ ببساطةٍ مذهِلة، يومها كرَّمني مديرُ المدرسة؛ لأنَّني تسببتُ في تصور الوفدِ أنَّ مدرستنا تُخَرِّج أجيالاً من العباقرة.
لم يكن ذلك موقفي الوحيدَ بالطبع، فقد تعودتُ أن أكون الأولَ والسابقَ في كلِّ ما يتطلَّب قدراتٍ عقليَّة خاصة.
ولكن تلك العبقرية دائمًا ما عجزَتْ أمام المواقف الاجتماعية العاديَّة، كنتُ أجدُ الجميعَ دائمًا مستوعبين، مقتنعين بكلِّ ما يُقال ويَحدث، يتصرَّفون بطريقة متشابهة، متناغمة، متَّفقة على أسسٍ ما غامضة، لم أكن أفهمها أنا، كنتُ أقفُ بينهم كالأَبله، أديرُ عينيَّ في الوجوه، ويدور عقلي داخل علبته العظمية باحثًا عن تفسير، فلا يجد.
مرَّت السنون بي، وعقدتي لا تنفكُّ، بل تزداد تعقيدًا، بعد أن انتفى عذرُ طفولتي كمبررٍ لعجز فهمي.
واليوم، وبعد أنْ بلغتُ الثلاثين، فهمتُ متأخرًا جدًّا كلَّ ما صعُبَ عليَّ بالأمس، أدركتُ أخيرًا أنَّ الخطأَ لم يكن في إدراكي أبدًا، ولكن علاقات الآخرين بالفعل لم تكن أبدًا منطقيَّة، فنتائجُهم يستخلصونها في العادة من مقدماتٍ لا تمتُّ لها بصِلة، بل تتَّصل بقواعد اجتماعيَّة معوجَّة، وضعوها في الغالب لضمان مصالحهم الشخصيَّة، ومعادلاتُهم التي احتوت مجهولَيْن، سمحوا لأنفسهم دائمًا باستخراج حلولٍ ما لها، هكذا، بكل بساطة، انقيادًا وراء العُرف والتقليد، مهما سُحق المنطق في سبيل ذلك.
تنفستُ الصعداءَ حين أدركتُ تلك الحقيقة، وثبتت براءتي أمامَ نفسي من تهمة التخلُّفِ العقلي، التهمةِ التي التصقَت بي في محيط أسرتي، رغم حصولي على درجة الماجستير في الرياضيات البحتة، لكن أمِّي ما انفكَّت تناديني بالأبلَه!
المهم أنَّني صرت واثقًا أنَّني من الآن فصاعدًا، سأكون قادرًا على فهم كل ما يدور حولي، ونويتُ أن أعمل على تصحيح المفاهيم المشوَّهة، والمعاييرِ المغلوطة، في مجتمعي الصغير.
بالأمس زارنا جارُنا السيدُ كامل دبُّوس، كان غاضبًا للغاية، ويتَّهم زوجتَه بتعمُّد إغضابه، حكى لنا أنَّه طلب منها ألف مرَّة ألا توقظه باكرًا يوم إجازته، لكنَّها دائمًا ما تفعل ذلك.
زفر السيد دبوس في غيظ قائلاً: "الجمعة الماضية، استيقظتُ على صوت مواء القطط أسفل شباك حجرة نومي، هببتُ غاضبًا، فتحتُ الشباك، وجدتُ القططَ متجمعةً حول بقايا أسماك، تُشبه تِلك التي رميناها أمس بعد الغداء، هل تحاول إقناعي أنَّها مجرد صُدفة؟ وأنَّ هذه البقايا ليست لنا؟! أو أنَّ زوجتي لم تتعمَّد رميها للقطط، لتموء، فتوقظني باكرًا؟!".
مصمصَت والدتي بشفتيها، وضربَت فخذها بحسرةٍ قائلة: "نساء اليوم!".
بَحْلَقتُ في أمِّي لثوانٍ مندهشًا، ثمَّ عدتُ بعيني إلى جاري الذي بدا عليه أنَّه استشاط أكثر بكلمات أمِّي.
ابتلع السيدُ دبوس ريقَه وتابَع في حماس: "أمَّا الجمعة التي سبقَتْها، فقد استيقظتُ على صوتِ ضجيجِ بائع أنابيب الغاز، فتحتُ الشباكَ ثائرًا، فوجدتُه ينظر ناحية شُرفة شقتنا، كان واضحًا أنَّ زوجتي اتفقَت معه على ذلك، وإلاَّ فما سرُّ مروره الباكر جدًّا - على غير عادته -؟ وما سبب نظرةِ الانتصارِ التي لمحتُها في عينيه وعينيها؟! لا يمكن أن تكون مجرد صدفةٍ بالطبع".
استطرد السيدُ دبوس قائلاً بحماس: "أمَّا هذا الصباح، فقد استيقظتُ باكرًا كالعادة، لكنها هذه المرَّة استعملَتْ أسلوبًا جديدًا، فقد أيقظني صوتُ صراخ الجارة إثر مشادَّةٍ عنيفة مع زوجها، وقد كانت زوجتي تزورها منذ يومين، بالطَّبع اتفقَت معها على اختلاق شِجار في موعد نومي يوم الإجازة، الأمر لا يَحتاج لكثير من الذَّكاء"، توقَّف جاري عن الحديث لاهثًا.
حاولَت شفتاي أن تنفرِجا، لكنَّ مجموعةً من الصواريخ اندفعَت من فم أمِّي، أجهضَت أيةَ محاولةٍ منِّي للتدخل.
نحيتُ جانبًا كلَّ ما قرأتُ عن الأمراضِ النفسيَّة وسيطرةِ الضلالات، والشعورِ المزمن بالاضطهاد، واتخذتُ ركنًا قصيًّا، حاولتُ جاهدًا أن أجدَ علاقةً بين ما تقوله أمِّي، والأعراضِ التي ذكرها السيدُ دبوس، لكنِّي فشلتُ تمامًا.
رحتُ أرقبُ بذهولٍ اقتناعَ جاري الشديد البادي على وجهه، بما تقدِّمه أمِّي من نصائح، أشفقتُ عليه مما يمكن أن يصيبه، إنْ هو اتَّبع نصائحها.
وبعد يومين، عاد الجارُ لزيارتنا، مبتسمًا ابتسامةً واسعة، وراح يَحكي لأمِّي كيف أنَّ زوجتَه تغيرَت تمامًا، عندما نفَّذ النصائحَ، وراح يشكرها بحرارةٍ شديدة.
غادر جارُنا شقتنا، تاركًا إياي في حالة يرثى لها، بينما نهضَت أمِّي من جلستها بثِقة، ومضَت مختالةً إلى المطبخ، مخبرةً إياي أنَّها ستعد لي طبخ الملوخية الذي طلبتُه منها.
تسللَتْ إلى أنفي رائحةُ الملوخية اللذيذة، فنسيتُ معها قصةَ جارنا المريعة، وهُرِعْتُ إلى المطبخ سائلاً إياها في حماس، عن سرِّ إبداعها في الملوخية، دللَتْ جفنيها في خيلاء، رفعَتْ غطاء الآنية، سكبَت فيها شيئًا، ثمَّ أخذت شهيقًا عميقًا قويًّا، وأطبقَت الغطاء فورًا، بدت البلاهة في عيني صارخةً، فأشارَت أمِّي إلى صدرها وقالت: "السر في الشَّهقة"!
في الحقيقة لم أحتملْ أكثر، دلفتُ إلى حجرتي كَمَن ضُرب على رأسه بعَصًا ثقيلة، رُحتُ أُبحلق في المرآة لعينيَّ الصغيرتين، ونظَّارتي الطبيَّة السميكة، ورأسي المكعَّب الكبير الذي كاد أن يَخلو من الشعر، وأديرُ عيني في مكتبتي الضخمة، التي تتوسطها صورةٌ مكبَّرةٌ لأرسطو، وأسترجع قراري بتصحيح المفاهيم.
ضحكتُ ضحكةً هيستيريةً عالية، تأكدتُ أن أمِّي كانت محقَّةً في وصفها لي بالأبله، فكم هو مُستفزٌّ عجزي المستمر عن فكِّ سِرِّ الشفرة!
حدقتُ بغيظٍ وتحدٍّ في عيني ذلك الذي تسبَّب بمأساتي، اندفعتُ ثائرًا إلى المكتبة، انتزعتُ صورةَ أرسطو اللَّعين وكتابَ المنطق، وألقيتُ بهما من النافذة.
تعليقات
إرسال تعليق