القائمة الرئيسية

الصفحات

يعتذرُ منكَ الموت... إلى روح محسن فكري.

طاحونة هي الحياة، تطحننا وتسحقنا سحقاً، تسحقنا أحياء فلا تبقي ولا تذر، نلهثُ وراء رغيف خبز أعجف، هو كفاف يومنا، لا يكاد يغنينا عن...
طاحونة هي الحياة، تطحننا وتسحقنا سحقاً، تسحقنا أحياء فلا تبقي ولا تذر، نلهثُ وراء رغيف خبز أعجف، هو كفاف يومنا، لا يكاد يغنينا عن جوع ولا يُسمِن!!

بخيلة هي الحياة بل شحيحة علينا، نحن الفقراء والكادحين الساعيين إلى رزقهم فجراً مثلك، تسري إلى غمار البحر، تستجديه سمكاً، علّه تسدُّ الرمق بقروشه العصيّات على يدك، التي شاخت قبل أوانها كدّاً وتعباً، يلسعك البرد ويسكن عظامك فيجمد الدم في عروقك، ولكنك تأبى إلاّ أن تواصل إبحارك في غياهب الغسق، فتستمد عزمك من عشرة أفواه على قيد الجوع في انتظار عودتك مساءً.

غادرة هي الحياة، ولا تغدر بكَ إلاّ مساءً حيث يحلّ الظلام، فهي لا تقوى على مواجهتك، فتطعنك وأنت لم تقطف ثمار صيدك بعد، تحمله إلى السوق إذ يتربص بكَ قطّاع الرزق، فيخطفونه منكَ غيلة ويخطفون روحك معه، تلحق بروحكَ فأنى لكَ أن تحيا دونها، تحاول جهدك إرجاعها إليكَ كي لا تطحنك الحياة من غيرها، تعدو وتعدو تلهثُ تستميتُ، تمدُ يديكَ جسراً كي تعبره الأفواه إلى رغيف خبزهم، وتأبى السمكات إلاّ أن تبحر بعيداً عنكَ وعنهم، وتهجرك إلى شاطئ أسود عفن كقلوبهم الحاقدة، فتغرقُ فيه إلى قاع الموت المنسيّ، تمد يديك ثانية لعلّكَ في الرمق الأخير تنال شيئاً من حبات العرق التي لم تجفّ بعد على جبينك النديّ، ولكنك تسلّم جفنيك فقراً وقهراً، وتنام آمناً بعد أن ظلمتك الحياة، وعدلتَ أنت.

يا عجوز البحر وسيده نعتذر منكَ ويعتذر الموت كذلك، فنحن الذين تركناكَ وحيداً لتذهب مع ريح قمامتهم، لقد انتصرت على سمكة السيف وعليهم وعلينا، عندما عدتَ إلى الشاطئ بعد غياب، وعندما لحقتَ بها دون وعيّ، لتستعيد ماء الحياة، بينما فقدنا نحن ماء إنسانيتنا، نحن الذين انكسرنا، وما انهزمت أنت، وستقرع جدران مكبّ النفايات بيد من حديد، رغم أنوفهم وغطرستهم، فتخجل منكَ نفاياتنا وتصير ياسمين يفوح أرَجاً، ومروجاً تخضّر عشباً، وعصافير جنان ترفرف حولكَ راقصة، احتفاءً بموكبكَ إلى حياة لا طحن فيها، ولا هم يظلمون، وستزهر روحك ولو بعد حين، نوراً وسنىً ينير العتمة، عتمتنا التي غشيت بصيرتنا قبل بصرنا، ننحني أمامك خجلاً والعار يكللنا، ويعتذر منك الموت ….

خولة مغربي
Reactions

تعليقات