يُعتبَر الاكتئاب لدى كبار السنّ (من عمر 65 وما فوق) مشكلة جسدية ونفسيّة وروحيّة. ومن وجهة النظر الطبّية، يكون الاكتئاب جزءاً من منظومة مرَضية متعدّدة الأسباب، وبالتالي يصعب تشخيصها وعلاجها بسهولة.
تلعب الظروف الاجتماعية دوراً أساسياً في تفاقم هذه الحالة، مثل انشغال الأبناء عن ذويهم بسبب صراعات حياتهم الشخصية، بالإضافة الى الأسباب النفسية والروحية.
وللتعرّف أكثر إلى هذا الموضوع، أجرَينا حواراً مع بروفيسور العلوم النفسية والعقلية في جامعة «أوهايو» الأميركية، ورئيس زمالة الطبّ التشاوري في مؤسّسة «حمد» الطبية في قطر، الدكتور عادل سليمان أبو زرعه، الذي عرّفَ هذه الحالة قائلاً: «الاكتئاب النفسي لا يعني الشعور بالحزن بصورة عرضية فحسب، فهو أحد الأمراض النفسية التي تواجه الإنسان منذ بدء الخليقة، ويصيب هذا المرض الانسان في حياته كأيّ مرَض آخر، مثل السكّري والضغط وأمراض القلب والشرايين. لذلك، يجب أن نتذكّر دائماً أنّ الشعور بالاكتئاب لا يأتي نتيجة التقدّم في السن، ويجب أيضاً أن لا نخجل أو نشعر بالذنب لأننا مكتئبون.
مضيفاً: «الإصابة بالاكتئاب النفسي لا تعني ضعفاً بالشخصية، وإذا لم تتمّ معالجته بشكل مبكِر، سوف يتحوّل الى عجز في الوظائف العامة للجسم وفقدان العلاقات العائلية والاجتماعية والعملية».
الأسباب
معدّل انتشار الاكتئاب لدى المسنّين يصل الى 35 في المئة، ونسبة إصابة النساء به تفوق الرجال. ويعَدّد أسباب هذا المرض كالآتي:
- الأسباب البيولوجية: يعاني المسِنّ من مشكلات صحّية كثيرة، مثل ضعف السَمع أو البصر، ما يَجعله معزولاً عن من حوله.
كما يعاني من اضطرابات في الأجهزة المختلفة كأمراض القلب والسكّري وارتفاع ضغط الدم، وآلام المفاصل واضطرابات الضغط والتنفّس وأمراض الكبد والكِلى، وهذه الاضطرابات المتعدّدة تجعل المسنّ يَشعر بالضعف، وتقلّ ساعات نومِه ويشعر بآلام حادّة ومتعدّدة في جسده، ويصبح منشغلاً غالبية الوقت بمشكلاته الصحّية التي تحتلّ المساحة الأكبر من وعيه، بالإضافة الى تراجع الأحاسيس الممتعة التي كان يشعر بها في شبابه.
يضاف إلى ذلك الأدوية المتعدّدة التي يتناولها المسنّ لعلاج الأمراض المختلفة، فعلى رغم فوائدها فهي لا تخلو من العوارض الجانبية التي تفاقم معاناته.
ومِن أهم هذه العوارض الاكتئاب، فقد ثبتَ أنّ كثيراً من الأدوية التي يتناولها المسنّ تؤدّي إلى الاكتئاب، وكثيراً ما نَرى في العيادات النفسية مسنّين مصابين بحالات اكتئاب شديدة على رغم أنّهم يعيشون حياة طبيعية، ولكنّنا نكتشف أنّ هناك علاقة بين ظهور هذا الاكتئاب وتعاطي أدوية معيّنة، وخصوصاً أدوية الضغط من مشتقات الريزربين reserpine والبروبانول Propanolol وأدوية القلب أو مضادات الألم أو غيرها، كما أنّ ضعف الحركة يَجعل المسِنّ يعيش في دائرة ضيّقة تشعِره بالملل.
- الأسباب النفسية: تتراكم على المسنّ خبرات الفقدان، فيمكن أن يكون قد فقَد رفيقَ عمره (زوج أو زوجة) وأصبح وحيداً، أو فقدَ معظم أصدقائه، إمّا بالموت أو بصعوبة لقائهم بسبب مرَضهم أو مرَضه، أو فقدَ مكانتَه الوظيفية وقدرتَه على الكسب ولم يعُد أمامه أهدافٌ يحقّقها، وأصبَح يعيش منتظِراً النهاية وشبحُ الموت يحوم حوله ليلاً نهاراً.
- الأسباب الاجتماعية: قد يعاني عزلةً شديدة بسبب انشغال أبنائه عنه بسبب مشاكِلهم أو بحياتهم الشخصية، ولم يعُد أحد بحاجة إليه، على الأقلّ في نظره، فيشعر بأنه أصبح عبئاً على الجميع، فهو بلا فائدة أو تأثير.
- الأسباب الروحية: يقف المسنّ عند حافة المجهول، حيث يدرك في أعماق وعيه أنه مقبِل على عالم مجهول لا يعرف مصيرَه فيه، وعليه تركُ أشياء لطالما تعلّقَ بها وسعى للمحافظة عليها.
مَن هو المكتئب
تتعدّد العوارض المرتبطة باكتئاب المسنّين، من جسَدية ونفسية، بحسب ما جاء في الطبعة الخامسة من كتاب التشخيص والإحصاء الصادر عن المجلس العلمي النفسي الأميركي التي يعدّدها:
- الشعور بالحزن المستمرّ
- فقدان الرغبة والاهتمام بالحياة اليومية
- زيادة شهية الأكل أو نقصانها
- إضطرابات النوم
- القلق المتزايد غير الطبيعي وسرعة الانفعال
- الشعور بعدم القيمة الذاتية والشعور المتنامي بالذنب
- ضعف في الذاكرة والتركيز
- الإحساس بالتعَب الجسدي، والشعور بآلام متفرّقة والهوَس بوجود أمراض خطيرة
- فقدان الاهتمام بالحياة اليومية
- توارُد الأفكار السوداء أو الانتحارية
- العزلة الاجتماعية أو الابتعاد عن أفراد العائلة والأصدقاء
مضيفاً: «تختلف صورةُ الاكتئاب لدى المسِنّ، حيث يكون مختلطاً بعوارض الأمراض الجسدية الأخرى، مثل سوء التغذية والخرَف، ولذلك، تغلب هذه الأعراض على اكتئاب المسنّين، فتجدهم يشكون من آلام كثيرة في الجسد، ويفقدون الشهية على الطعام والشراب، فيُصابونَ بضعفٍ عامّ بالإضافة إلى الإمساك.
وفي بعض الحالات، التي تصل إلى 15 في المئة، يعاني المكتئبون من الخرَف الكاذب، حيث يبدو المريض وكأنه مصاب فعليّاً بالخرف، فيجيب على الأسئلة بقوله «لا أدري» ويبدو ناسياً لكلّ تفصيل ولا يستطيع العناية بنفسه. وقد يكون يعاني من الخرَف الفعلي، فقد تبيّنَ أنّ 25 إلى 50 في المئة من حالات الخرَف تكون مصابة بالاكتئاب كأمراض مصاحبة.
وقد يفكّر كبير السنّ في الانتحار، وعن هذه الحالة يقول د. أبو زرعه: «في حالات الاكتئاب، قد يفكّر المسنّ في الانتحار ولا يستبعد تنفيذه له. لذلك، يجب أخذ موضوع الأفكار والخطط الانتحارية بمنتهى الجدّية. ولا يعَوّل على أنّه رجل عاقل وفكرة الانتحار مستبعدة عنه، فنحن هنا أمام منطق مرَضي مرتبط باضطرابات كيميائية في الدماغ ونقص في مادة السيروتونين والدوبامين والنورادرينالين.
كيف نواجه الاكتئاب؟
مشكلات الشيخوخة المستمرّة والمتزايدة تدفَع إلى الإسراع في العلاج كي لا يتحوّل الاكتئاب الى مزمن. وللحدّ من ضعف المناعة التي يسبّبها، وكي لا يدخل المريض في مسار تدهوريّ، خصوصاً مع تداخلات الأمراض وتفاعلات العلاجات المختلفة، يفسّر د. أبو زرعه العلاج قائلاً: «إنّ التأخير في علاج الاكتئاب النفسي لدى كبار السنّ له انعكاسات خطيرة ومميتة، فمراجعة طبيب العائلة أو الطبيب النفسي مبكراً يُعتبَر ذات أهمّية بالغة لتشخيص الخطة العلاجية والحالة ووضع الخطة المستقبلية.
فالمسِنّ يحتاج الى فريق علاجي متعدّد التخصّصات للإشراف على علاجِه، حيث يكون هناك اضطرابات متعدّدة في أجهزة مختلفة في جسمِه ولا بدّ مِن ضبط أنواع العلاج بين هذه التخصّصات المختلفة، ويراعي العوارض الجانبية والتداخلات بين أنواع العلاجات المختلفة أيضاً.
مضيفاً: «كما يجب أن يراعى أيضاً حالة الكبد والكليتين اللتين تهتمّان بتنظيف الجسم من أيّ أدوية أخرى، والتي تكون أضعفَ من قَبل، مع تراجع قدرتِها على طرد المواد الكيمائية من الجسم، لذلك يجب إعطاء نصف الجرعة المعتادة أو ثلثها للمسنّ.
ويحتاج المسنّ المكتئب أيضاً الى جرعات مناسبة من مضادات الاكتئاب، خصوصاً مجموعة مناعة استرداد السيروتونين، لأنّها أقلّ في العوارض الجانبية إذا اقترنت بمضادات الاكتئاب الأخرى التي ثبتَت آثارها السلبية.
وإلى جانب العلاج الدوائي، يحتاج المسنّ المكتئب الى علاج نفسي تدعيميي يتفهّم صعوباته واحتياجاته ويُناقِص مخاوفَه وتساؤلاته ويساعده في إدارة حياته المليئة بالمتاعب المختلفة»، ويشير إلى أنّه «باستطاعة الأسرة التخفيف كثيراً من معاناة المسنّ، ويشمل ذلك مساعدة الأبناء بالرعاية فيخفّفون من وحدته ويُطَمئنون خوفَه ويُشعِرونه بالرعاية والمحبّة، ويستفيدون من حكمته ويُشعِرونه بالاحترام الكامل ويردّون له الجميل».
كما يحتاج المسِنّ إلى ما يسمّى بالعلاج الروحي، ويقول: «هذا العلاج هو الإعداد الواقعي للرحلة الأخيرة، فيمكن أن يتوب أو أن يسَوّي خلافاته مع العائلة إنْ وُجِدَت، وبهذا الأسلوب يجد المسنّ معنى للحياة ويتقبّلها بنفسٍ راضية».
تعليقات
إرسال تعليق