الثقوب السوداء أماكن ذات جاذبية هائلة تبتلغ كل ما يقع تحت مجالها من كواكب ونيازك وغيرها، يجهل العلماء عنها الشيء الكثير، وأقرب واحد إلى كوكب الأرض يبعد 1600 سنة ضوئية.
نعيش على سطح كوكبنا الجميل الذي سخره الله لنا، والذي يجري آمنا مطمئنا في مداره حول الشمس، ولا نرى من السماء إلا جمالها، ولا نحس إلا بهدوئها ورونقها، ولكن هناك في الفضاء الفسيح من الأحداث والأجرام والمجرات والأهوال ما لا يكاد يدركه عقل، وما يصعب على مخيلة المرء أن تتصوره.
ومن أكثر ما يثير فضول العلماء من مكونات الفضاء ويحفزهم على اكتشاف كنهه وتركيبه وما يحدث فيه وحوله ما يسميه العلماء (الثقوب السوداء) التي اكتشف العلماء عنها مؤخرا حقائق جديدة، فصارت خبر الساعة عند الفلكيين، فما هي هذه الثقوب؟ ولماذا تطفو قصتها على السطح من حين لآخر؟ ولماذا تثير قدرا كبيرا من الجدل؟
ما هي الثقوب السوداء؟
الثقوب السوداء هي أماكن في كوننا الفسيح، تتمتع بجاذبية هائلة خارقة يصعب تصورها، تجذب كل ما يقترب منها من أجرام وأشياء، سواء كانت غازات أو نيازك أو كواكب أو نجوما، وهي تجذب حتى الضوء، فلا يستطيع الضوء الفكاك منها لو مر في مجالها.
وما يجهله العلماء عنها أكثر مما يعلمون، كيف لا وأقرب ثقب إلينا يبعد عن الأرض 1600 سنة ضوئية، ولتصور هذا الرقم يكفي أن نعرف أن الشمس تبعد عن الأرض ثماني دقائق ضوئية فقط، وغني عن الذكر أن سرعة الضوء هي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة.
على أن بعد الثقوب السوداء عنا ليس السبب الوحيد لغموضها وتضارب المعلومات عنها، بل هناك أسباب أخرى كثيرة، منها دورة حياتها وطريقة تشكلها وماهية المواد فيها وسر جاذبيتها الهائلة وعلاقتها مع المجرات والنجوم وأشياء أخرى كثيرة، كشف العلم بعضها وما زال يحاول كشف المزيد.
يمكن للتقريب تشبيه ما تفعله الثقوب السوداء بما تفعله الدوامات التي تحدث في البحار بسبب العواصف أو الأعاصير، فتمتص كل ما يصادفها من أجسام وأحياء، وأحياناً سفناً كاملة، وتهوي بها في قاع البحر.
ما هي مكونات الثقب الأسود؟
ولكن إذا كانت الدوامة تتألف من ماء، فما مكونات الثقب الأسود؟ إن كلمة ثقب توحي بأن هذه الأماكن من الفضاء هي فراغات سحيقة تبتلع ما يمر بها، ولكن الواقع هو عكس ذلك تماماً، هي في الحقيقة أماكن يكون تركيز المادة فيها هائلاً يصعب تصوره، وهذا هو سر جاذبيتها الهائلة.
وحتى نتصور مدى تركيز المادة فيها، يضرب العلماء مثلاً طريفاً، فهم يقولون إننا لو أخذنا قبضة من الثلج الهش لوجدنا وزنها حوالي 37 غراما، فإذا أخذنا قبضة من صخر الغرانيت، نجد أن وزنها حوالي 280 غراماً، وإذا قمنا بوزن مقدار قبضة من المادة الموجودة في مركز الشمس، لوجدنا وزنها، 29000 غرام، أما وزن قبضة من مادة الثقب الأسود فهو خمسون (أوكتيليون) غرام، أي رقم خمسين وأمامه 27 صفرا، وهو ما يعادل عشرة أضعاف وزن الأرض، وهذا التركيز الهائل لكتلة المادة في الثقب الأسود، والذي يصعب على العقل تصور مقداره، هو سبب الجاذبية الخارقة التي يتمتع بها الثقب الأسود.
الثقوب السوداء ليست ثقوبا إذن بمعنى الثقوب التي نعرفها، ولكنها كتل هائلة مضغوطة من المادة، سميت ثقوبا لأنها تشبه الثقوب في أن ما يمر بها يدخل فيها ويختفي، كما يختفي الماء إذا صببناه في إناء مثقوب، غير أن ما يدخل في الثقب الأسود لا يخرج منه إطلاقاً، فلكل ثقب أسود مجال محيط به يسمى (مجال اللاعودة)، وهذا المجال لا يسمح لأي شيء يمر به أن يخرج منه، مهما كان حجمه، ومهما كانت سرعته، سواء كان كبيراً بحجم نجم أو كوكب، أو صغيراً بحجم ذرة، لأن العلماء يقولون إن شرط خروج أي شيء من الثقب الأسود أن تكون سرعته أكبر من سرعة الضوء، وهذا مستحيل من الناحية الفيزيائية.
كتلة الثقوب السوداء وأبعادها تتفاوت بشدة، وغالباً لا يزيد قطرها عند نشأتها عن بضعة كيلومترات، ولكنها تتضخم وتكبر مع الزمن كلما ابتلعت المزيد من الأجرام، وقد تصل إلى أحجام عملاقة جداً، وغالباً يحوي مركز كل مجرة من المجرات ثقباً أسود عملاقاً، ومجرتنا درب التبانة ليست استثناء، إذ يوجد في مركزها ثقب أسود عملاق، كتلته تعادل 2.5 مليون من كتلة الشمس، وقطره يمتد لملايين الكيلومترات.
كيف نشأت هذه الكائنات العجيبة؟
للعلماء في ذلك نظريات متعددة لم يتأكد أي منها، ولا يزال نشوؤها لغزا يبحث عن حل، ولكن أشهر النظريات وأكثرها قبولا بين العلماء هي أن هذه الثقوب هي نتيجة نفاد الطاقة في النجوم العملاقة، وبيان ذلك أن النجوم ليست إلا مصانع عملاقة للطاقة، تنتج الطاقة بواسطة تفاعلات نووية هائلة، سببها الاندماج النووي بين ذرات الهيدروجين، وهو المكون الأساسي لمادة النجوم.
وعندما تندمج ذرات الهيدروجين بعضها ببعض ينتج عنها غاز الهيليوم، والذي بدوره يندمج ليشكل عناصر أخرى أثقل، والأثقل يندمج ليشكل عناصر أكثر ثقلاً، وهكذا، في سلسلة تفاعلات ليست هي موضوعنا، وتنتج عن هذه التفاعلات النووية كميات هائلة من الطاقة، وهي التي ترسلها النجوم لنا على شكل أشعة، منها أشعة شمسنا، ويمكن لهذه التفاعلات أن تستمر لبلايين السنين حسب كمية المادة التي في النجم، فشمسنا مثلاً يقدر العلماء أنها نشأت قبل ستة مليارات سنة، وأنها ستستمر في إنتاج الطاقة أربعة مليارات سنة أخرى على الأقل.
وتبدأ قصة نشوء الثقوب السوداء حسب هذه النظرية، عندما تنفد طاقة النجوم العملاقة، التي تزيد كتلتها بما يزيد عن 25 ضعفا من كتلة الشمس، ذلك أنه أثناء العمر المديد للنجوم، يكون هناك توازن بين القوة النابذة الناتجة عن الاندماج النووي، والتي تدفع بمادة النجم بعيداً عنه، وبين قوة التجاذب بين العناصر والذرات التي تكون مادة النجم، والتي تجذب المادة نحو مركز النجم، فيحافظ النجم على كتلته بشكل متماسك، حتى إذا نفدت طاقة النجم، تتغلب قوة الجاذبية على قوة الطاقة، فتنكفئ مادة النجم إلى مركزه، وتنضغط انضغاطاً شديدا بسبب كثافتها وقوة التجاذب بينها، وتشكل ثقباً أسود، وذلك بعد أن يحدث انفجار هائل، سببه التدافع الهائل الذي يحدث بين المادة الموجودة في مركز النجم نتيجة انضغاطه..
وهذا الانفجار الهائل هو ما يسميه العلماء (سوبرنوفا)، وهو يطرد الغلاف الخارجي للنجم وما تبقى من غازاته بعيداً في الفضاء، ويتحول مركز النجم العملاق كما أسلفنا إلى كتلة شديدة الانضغاط من المادة، هي الثقب الأسود، حتى إن بعض العلماء يتوقع أن تكون كتلة الثقب الأسود كلها مركزة في نقطة واحدة، ولكن لا يمكن الجزم بما يحدث في قلب الثقوب السوداء، فما زال العلماء يجهلون عنها أكثر مما يعلمون.
أما النجوم الصغيرة مثل شمسنا فلا تصبح ثقوباً سوداء بعد نفاد طاقتها، ولكنها تصبح أجراماً خافتة يسميها العلماء (نجوما نيترونية)، أو (أقزاماً بيضاء).
كيف يتوصل الفلكيون لمعرفة أماكنها؟
ليست الثقوب السوداء أجراماً يمكن رؤيتها، لأنها تبتلع أي شيء يدخلها، بما في ذلك الضوء، ولكن العلماء يعلمون بوجودها عندما يكتشفون (مجال اللاعودة)، المحيط بكل منها، والذي ذكرناه آنفاً، أو عندما يكتشفون انبعاثات هائلة من الأشعة السينية المنبعثة من محيطها، والناتجة عن الاحتكاك الذي يسببه اختراق المادة لمجال اللاعودة، حين تصطدم بذلك المجال فيبتلعها الثقب الأسود.
ما آخر الاكتشافات العلمية المتعلقة بها؟
لاحظ العلماء في الماضي أن بعض الثقوب السوداء تحيط بها هالات ضخمة من الغازات أطلقوا عليها اسم "دونت"، أي (كعكة) لأن شكلها يشبه الكعكة، وكان العلماء يظنون حتى عهد قريب أنها متجانسة منتظمة تحيط ببعض الثقوب السوداء، وتدور حولها كما يدور دولاب الدراجة حول محوره.
غير أن العلماء في إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) اكتشفوا حديثا، وبواسطة نوع جديد من التليسكوبات، أطلقوا عليه اسم (نيوستار) يعمل بتقنية جديدة أطلقوا عليها اسم، (مصفوفة الطيف النووي)، اكتشفوا أن الهالات المحيطة ببعض الثقوب السوداء أشد كثافة وسماكة مما كانوا يعتقدون، وأنها أيضا غير متجانسة، بل هي مختلفة الكثافة ومضطربة وغير منتظمة، وليست مجرد أسطوانة بسيطة تشبه الكعكة كما كانوا يظنون.
ولكن العلماء ما زالوا يسمونها "كعكة"، وبالإنكليزية "دونت"، لأنها كما يقولون مثل الكعكة، قابلة "للأكل"، نعم، فالثقب الأسود "يلتهم" من حين لآخر ما يهوي إليه من مكونات هذه الهالات الضخمة، وهذا برأي بعض العلماء سبب عدم تجانسها وسبب كونها كتلاً مضطربة مختلفة الكثافة والتكوين.
كما أثبت الكشف الأخير أن جميع الثقوب السوداء محاطة بتلك الهالات، وليس بعضها، وأن سبب عدم رؤية بعضها ورؤية بعضها يعتمد على تموضع الهالات المحيطة بها بالنسبة للأرض، أو للتلسكوب الذي يلتقط صورها.
ويؤكد العلماء في وكالة ناسا أن لهذا الاكتشاف المتعلق بالهالات وتكوينها أهمية كبيرة في فهم نمو وتطور هذه الثقوب السوداء الهائلة، والمجرات التي تحتضنها، ويؤكدون أيضاً أن أمامهم أشواطاً طويلة من البحث والتقصي حولها، لأنهم كلما فكوا لغزا من غوامضها وجدوا وراءه المزيد من الألغاز الجديدة.
تعليقات
إرسال تعليق