القائمة الرئيسية

الصفحات

مجاعة قتلت ثلث اللبنانيين في الحرب العالمية الأولى



يرى البعض أن سياسة جمال باشا أدت إلى الإبادة الجماعية. رأي يستند إلى تصريح أدلى به وزير الحربية التركي آنذاك، أنور باشا، في العام 1916 والذي صرح قائلا: "إن الحكومة لا يمكنها استعادة حريتها وشرفها إلا عندما يتم تنظيف الإمبراطورية التركية من الأرمن واللبنانيين. الأوائل دمرناهم بالسيف، أما الآخرون فسنميتهم جوعا." هل توافق على هذا الاتهام؟

أنا أرى أنه لم تكن هذه هي الحالة، ليكون هناك اتهام بحرب إبادة جماعية، لابد من توافر النية المبيتة والمتعمدة للقضاء على سكان شعب ما. وفي هذه الحالة تحديدا يتعذر إثبات هذه النية بالدليل القاطع. وهذه اتهامات مزورة ومنتحلة. من المؤكد أن العثمانيين كانوا سيكونون سعداء باختفاء المسيحيين، لكن لم يفعلوا ذلك بشكل منهجي. جمال باشا لم يقل سوى "أنا لا أريد إدخال السلع الغذائية لجبل لبنان لأن اللبنانيين موالون للفرنسيين، وهو ما سيؤدي إلى سقوطها في أيدي الفرنسيين".

أنا نفسي متحدر من عائلة مسيحية عانت هي الأخرى من المجاعة، ولكنني لا أقول إن ما حدث هو إبادة جماعية، كما حدث للتوتسي أو الأرمن. مات اللبنانيون بسبب الإهمال الشديد والقاسي. والحصار البري هو ما زاد الطين بلة، فعلى الإثر ارتفعت أسعار كل شيء، وكان الناس يهربون بجلدهم عابرين الحدود للمدن القريبة ليلاقوا حتفهم على الطريق أو من التسول في هذه المدن سواء أكانت دمشق أم طرابلس أو غيرهما.

ورغم كل هذه الفظائع إلا أن هذا الفصل من تاريخ لبنان أسدل عليه ستار من النسيان. فهذا البلد يحتفل كل عام بالسادس من مايو/أيار مخلدا ذكرى القوميين اللبنانيين الذين أعدموا على يد جمال باشا في العام 1916. فلماذا يتم إغفال ذكرى المجاعة الكبرى؟

على المستوى الشخصي، أعتقد أن الناس كانوا يشعرون بالخجل من رواية أو معرفة ما حدث. لم يكونوا يريدون الاعتراف بأن نساءهم أجبروا على تقديم خدمات جنسية للضباط الأتراك لسد رمق أطفالهم. الأب سليم دكاش، رئيس جامعة القديس يوسف، على سبيل المثال كان يحكي قصة جدته التي اضطرت لمغادرة قريتها، وفي الطريق فقدت طفلها الذي تركته على قارعة الطريق لتذهب للبحث عن خبز على مسيرة ثلاثة أيام سيرا على الأقدام لتطعم طفلها. بالطبع ليست هذه ذكريات تروى للأجيال التالية فهي ليست بحال من الأحول ذكريات بطولية. وفي الجبل، سمعة العائلة فوق كل شيء ويحذر الناس الحديث عن أشياء تحط من قدر وسمعة عائلاتهم. كان الحديث عن هذه المجاعة في العشرينيات [من القرن الماضي] أمرا عاديا أما بعد ذلك فقد دفن هذا التاريخ ولم تعد الأحداث الفظيعة تنقل من جيل إلى جيل.

حقا لقد اختارت الدولة تسليط الضوء على تاريخ 6 مايو/أيار لأنه في حد ذاته رمز على وحدة لبنان لأنه اليوم الذي أعدم فيه وطنيون لبنانيون مسلمون ومسيحيون. ولا تزال الدولة تحتفل به رغم أن الأحداث والحرب الأهلية أثبتت أن هذه الوحدة كانت وهما. هناك أيضا يوم الشهداء الذي يحتفي بموت أربعين شخصا تحت التعذيب. أما ذكرى وفاة 200 ألف شخص فلا تلقى تكريما يذكر. الدولة اللبنانية كانت تبحث عن ذكرى تعيد بناء نسيجها مع عنصرها الإسلامي وتكشف عن وحدة مكونات الدولة. أما هذه المجاعة الكبرى فهي تاريخ يزيد من انقسام البلاد لأن ضحاياها كانوا المسيحيين بالدرجة الأولى فمعظم المناطق التي ضربتها المجاعة، مثل جبل لبنان، مثل المسيحيون أكثر من 80 بالمئة من سكانها.

هل تعتقد أن هذا التاريخ المنسي سيخرج أخيرا إلى الأضواء مع الاحتفال بمرور مئة عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى؟

لا، سوف يكون مصيره دائما البقاء على الهامش فهو حدث مقســِّم أكثر من كونه موحدا. سيظل دائما هناك من يقول إن الأتراك المسلمين هم من جوعونا. وهي أقوال تحي وتنفث في نيران الانقسامات والتوترات في بلد مثل لبنان، حيث لا يزال الناس يحاولون محو الذكريات السيئة التي عاشتها الطوائف فيما بينها. ليس إذن الوقت مناسبا للحديث عن المجاعة الكبرى. ورغم أنني لا أمل من التذكير بهذه الأحداث منذ ما يقرب من عقد من الزمن أدركت أن الناس بدأوا يتذكرون رويدا رويدا بعضا منها.


فرانس 24 
Reactions

تعليقات