القائمة الرئيسية

الصفحات



ابراهيم كشت - لو أردتُ أن أتحرّى مزيداً من الدقة اللغوية ، فربما استخدمتُ تعبير (العزّة) بدلاً من تعبير (الكرامة) ، إذأن المعنى المقصود الذي أريدُ الحديث عنه هو (ضِدُّ الذل والهوان) ، وكلمة (العزّة) تدلُّ في أصل اللغة على هذا المعنى أكثر من دلالة كلمة (الكرامة) عليها ، لكن في الاستعمال اللغوي الشائع حالياً ، والأكثر ارتباطاً بالفهم والأذهان ، نجد أنّ لفظ (الكرامة) هو المستخدم على نحو أوسع للدلالة على هذا المعنى (أقصد المعنى الذي يشير إلى ضدّ الذل والهوان) 0
تعني العزة في اللغة (أو إن شئت الكرامة وفقاً لما جاء أعلاه) القوة والغلبة والبراءة من الذُّل ، ومما قاله القدماء في معناها إنها (حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب) 0 ويرى الأستاذ أحمد أمين رحمه الله في كتابه (فيض الخاطر) إن العزة تعني : (( إحساس المرء بأنه انسانٌ لا يتميّز عليه أحد في انسانيته )) 0 ومن الفلاسفة من رأى أن (الكرامة) تشير الى احترام الشخص لنفسه ، وفرضه الاحترام على الآخرين مـن خلال أقواله وأفعاله ومواقفه التي يُراعي فيها ذاته ، فهـو لا يأتي بقول أو فعل أو موقف يجعله موضــــع ذل أو ازدراء أو احتقار أو استهانة 0 وقد عرّف قاموس (وبستر) وقاموس (اكسفورد) الكرامة تعريفاً يكاد يكون مشتركاً بينهما ، حيث ذكرا ـ ما معناه ـ إن الكرامة تشير إلى الصفة أو الحالة التي يكون الشخص فيها جديراً بالقيمة والاعتبار والشرف والاحترام 0
* منطلق تمسّك الإنسان بقيمة الكرامة :
أعتقـد أن الأصل فـي الاحساس بالكرامة ، والتمسك بها كقيمة ، والمحافظة عليها ، والذود عنها ، هو أن الانسان بطبيعته لا يستطيع أن يعيش دون اعتبار ذاتي ، وأنه يعاني ألماً نفسياً شديداً حين يكون فـي حالٍ من الهوان والذل ، أو حين يفتقد احترامه لذاته وتقدير الآخرين له 0 لكن الانسان ـ كدأبه وعادته دائماً ـ يُحوّر معاني القيم ومفاهيمها بما يواتي وضعه ، ويحقق له التكيُّف ، ويُعينه على الحياة والاستمرار فيها ، لذا تجد أنه يضيف إلى معنى (الكرامة) ما شاء ، ويحذف من مفهومها ما شاء ، مقتبساً هـذا (الفن) من البيئة المحيطة به ، ومراعياً إملاءات لاشعوره ومصالحه ونزعاته وشتى حالاته 0 ودليل ذلك أن ما يعتبر طعناً في الكرامة في مجتمع ما ، قد لا يعدُّ كذلك في مجتمع آخر ، فبعض المجتمعات مثلاً تعتبر أن العمل اليدوي لا يتناسب مـع كرامة الرجل ، بينما تعتبره مجتمعات أخرى مصدر عزة وشرف 0 كما أن ما قد يعتبره شخص في المجتمع جزءاً مهماً من كرامته ، قد لا يعتبره شخص آخر من ذات المجتمع كذلك أبداً ، وفقاً لما سوف نفصّله تالياً في هذا الموضوع .

* اختلاف مفهوم قيمة الكرامة بين الناس :
لقد عرفتُ من الناس من لا يَقدِرُ على الاستمرار في العمل في أيِّ مؤسسة ، بحجة أنه لا يستطيع أن يتحمل أوامـر المسؤولين ونواهيهم ، فكرامته لا تطيق ذلك ، لكنه في الوقت ذاته لا يجد (غَضاضَةً) أو مساساً بكرامته إن هو ظلّ عاطلاً عن العمل ، ولا يعتبِرُ بقاءه عالة على الآخرين مُخّلاً بالكرامة ، ولا يرى في لجوئه للاستدانة من هذا أو ذاك ثم الأحجام عن السداد أي خدش في كرامته 0 وعرفتُ من الناس كذلك من إذا سمع شتيمة عدّها طعناً في كرامته ، لا يتوانى عن سفك الدم وإثارة الصراع والعراك الطويلين للثأر لها ، أما أن يحتال ويخون الأمانة ويقبل الرشوة ويخرج عن شرف مهنته 00 فليس في ذلك ما ينال من كرامته من قريب أو بعيد 0
إذن فالكرامة قياساً لفهم الناس لها ، وتعاملهم معها (شعورياً أو لاشعورياً) ، مرنة قابلة للمطّ والارتخاء والليّ والطيّ والتمدد والتقلص ، فكثير مما قد يُحجِم المرء عنه في مقتبل الشباب صوناً لكرامته ، لا يلبثُ أن يقبله بعد أن يغدو أباً (أو تغدو الشابة أمُّاً) وتدخل قيم جديدة حياته ، فتزيحُ قيماً أخرى من طريقها أو تضغطها أو تقلصها ، أو تجعل إعادة النظر في فهمها والتعاطي معها أمراً عادياً ومقبولاً 0 حتى (السيادة) بالنسبة للدول ، بوصفها تتضمن ـ إضافة لمعناها السياسي والدستوري ـ معنى كرامة الدولة وكرامة نظامها وشعبها وأرضها ، أقول : حتى السيادة بهذا المعنى ، نجد أنها أصبحت تتصف بالمرونة ، وبدأ نطاقها يتقلّص ، وذلك في ضوء ترسّخ مفاهيم العولمة ، وتزايد آثارها ، إضافة إلى ازدياد قـوة المجتمع الدولي وتأثيره ، وسعي الدول لتحقيق مصالحها الاقتصادية ، التي تقتضي أحياناً التنازل عـن جوانب كانت تعتبرها فيما مضى جزءاً من صميم سيادتها .
* التطرّف في فهم معنى الكرامة :
كما هو شأن الذين يفتقدون السَّواء النفسي والنضوج ، أو يعانون من العقد ، أو الأمراض النفسية ، في ميلهم عادة نحو التطرف في جوانب كثيرة من جوانب الحياة ، فإنك واجد هذا النمط من التطرف والتشدد في فهم (الكرامة) لدى هؤلاء واضحاً ، فكثير منهم يفسر مجرد الهفوة أو الايماءة أو التصرف العابر البسيط أو الكلمة البريئة ، على أنها طعن فــي كبريائهم ، وخدش في كرامتهم 0 وكم تنهار من علاقات صداقة ، أو حب بين الجنسين ، أو رابطةٍ زوجيةٍ ، نتيجة هذا الإفراط في الحساسية نحو الكرامة ، التي قد لا تشير في صورتها المبالغ فيها هذه ، إلا إلى تَمركُز حول الذات ، وتضخم في الأنا ، واعتقاد المرء المريض بأنه مركز الكون الذي تجرح النسمة عزة ذاته ، وإذا بهـذه الكرامة المزعومة حائل دون الانتاج ، أو الزواج ، أوالقيام بالواجبات ، أو باعثٌ على ســــــوء العشرة ، أو مصدر للاحجام عن أي مبادرة أو محاولة ، خشية الرفض الذي يفسر بأنه مسٌّ بالكرامة 0
* علاقة المجتمعات النامية بالكرامة :
أزعم أن الناظر في علاقة المجتمعات النامية بالكرامة ، لا بد أن يتوقف عند عدة إشارات ، أولها : إن الكرامة تحتل حيزاً واسعاً في (خطاب) هذه المجتمعات ، ويلمسُ ذلك سواء في التراث أو العادات والتقاليد أو الأدب أو الإعلام أو أحاديث المثقفين أو العامة ، وحجم هذا الخطاب لا يتناسب أبداً مع حجم الكرامة المتحققة لهذه المجتمعات في الواقع ، فهي تعيش غالباً الهزائم المتكررة ، وتحيا القمع السياسي والفكري والاجتماعي ، وتعيش المهانة الناتجة عن عدم تحكم الفرد بمصيره ، وفقدانه لعناصر السيطرة على الواقع ، وغياب مقومات (التمكّن) من حياته ، عدا عن الشعور بفقدان القيمة والمهانة والذل الداخلي ، الذي يبعثه الإحساس بعدم القدرة على تلبية ضـرورات الحياة ، نتيجة الفقر والبطالة والجهل والمرض والتبعية ، والإحباطات اليومية الناتجة عن كل ذلك 0
أما الإشارة الثانية ـ فيما أزعُم ـ فهي شدة ارتباط (الكرامة) فـي هذه المجتمعات بالكلام ، وببعض المظاهر والرمـوز الشكلية ، فالشتم والسب أكثر ما ينال من الكرامة (أما فوز الآخر بالإبل فلا ينال منها) ، والخطاب الحماسي (يُعيد للأمة كرامتها) ، ورفض شرب قهـوة المضيف قمة المهانة ، واسقاط (العقال) عـن الرأس ذورة الإذلال 00 حتى على مستوى القادة المستبدين الذين شهدناهم في بعض الدول ، فإن الاستجابة للقرارات الدولية يمسّ كرامة الوطن والأمة ، أما سجن المواطنين وتعذيبهم ، وفتـح المقابر الجماعية لهم ، وتبديد خيرات البلاد ، وتقتيل العباد ولو بالسلاح الكيماوي ، ولجم الحريات ، وسلب الديموقراطية ، فلا يمس كرامة المواطن والوطن والأمة في شيء 0
* وبعد :
إن الكرامة حين تُعني أن قيمة الانسان فوق كل قيمة ، وأن الانسان غاية بحد ذاته ، ولا يجوز أن يكون وسيلة بحال ، وحين تعني احترام المرء لنفسه ، وعدم تصاغر ذاته أمام الآخر ، وسعيه لأن يكون جديراً باحترام مَنْ حوله ، نتيجة ترفّعه على أسباب ومواطن المهانة والمذلة والهزيمة ، وحين تعني التزام مقتضيات الشرف والعفة والأمانة والنزاهة ، فإنها تكون قيمة رفيعة وخلقاً سامياً ، ومُعيناً على السلام والأمان والاحترام المتبادل بين البشر 0 أمـا حين تغدو (الكرامة) ، من خلال تحوير مفاهيمها ، مجرد حساسية مفرطة نحو سلوك الآخرين ، أو مجرد تمسك بكلمات وقشور تُعطى قيمة أكثر مما تستحق ، أو مجرد وسيلة للتهرب من المبادرة والإنتاج ، أو أسلوباً للتقوقع والابتعاد عـن خضم الحياة ، فإنها ليست ممـا ...ينفع الناس
Reactions

تعليقات