ابراهيم كشت - سوف تَعبُرُ إلى شعابٍ متعددة المسالك ، متداخلة الدروب ، إذا أنت حاولتَ البحث الجادَّ فـي معنى مصطلح (الثقافة) ، فتفسير مدلولات هذا المفهوم لم تتناوله المعاجم وحسب ، وإنما كُتِبتْ فيه دراسات وأبحاث ومؤلفات كاملة ، تناولتْ المفهوم وتطوره وأبعاده وأعماقه وظلاله ، ورغم هذا الاتساع في دلالات المصطلح ، فإني أميلُ إلى وجهة النظر التي ترى أن الثقافة تُمثّل الجانب المعنوي من الحضارة ، بمعنى أن الحضارة ـ كل حضارة ـ تتكون من جانبين : أحدهما مادي يتجلّى في العمران والآلات والأدوات والأجهزة ، وسبل المواصلات والاتصالات ، والمنتجات والاختراعات ، وما إلى ذلك من (أشياء) ، والجانب الآخر معنوي ينطوي على : المعتقدات ، والتصورات ، والقيم ، والأخلاق ، والفكر ، والاتجاهات ، والقانون ، والأعراف ، وطرائق التفكير ، والمعارف ، والعلوم ، والفنون بما فيها الآداب .
الثقافة .. هي حياة
المجتمع العقلية والوجدانية ..
الثقافـة إذن بالمعنى الذي تقدّم هي حياة المجتمع العقلية والوجدانية ، التي تنعكس على شكل أسلوبِ حياةٍ ونمطٍ من العيش ؛ فهي بيئة و(جوٌّ) ووسط ، وامتداداتها في العقل والوجدان لا تقتصر على الجانب الواعي لدى الإنسان ، وإنما تتغلغل بعيداً في اللاشعور أيضاً ومثل هـذا التفريق بين المادي والمعنوي ، بين الأشياء والأفكار ، لـه أهمية في فهم حياة المجتمع وتطوره ، فالأشياء سريعة التغيُر ، أمـا الأفكار فهي بطيئة في تبدّلها ، وبين الأشياء والأفكار دائماً علاقـة جدلية وتأثير متبادل ، لكن لكل منهما أيضاً طبيعته وخصوصيته .
العلوم ، ومنهج التفكير
العلمي ، جزء من الثقافة
الأمر المهم الذي أردتُ أن أشير إليه من خلال هذه المقدمة ، هو أن العلوم (أقصد العلوم الطبيعية الأساسية والتطبيقية) جزءٌ من الثقافة ، لأنها جزء من الحياة العقلية للمجتمع ، وجزء من ذلك الجانب المعنوي من الحضارة الذي يؤثر بقوة وكثافة واتساع في جانب الحضارة المادي ، بما يُتيحهُ مـن تكنولوجيا تتحول إلى إشباعٍ للحاجات ، وحلٍ للمشكلات ، وإلى سلع وخدمات ومنافع شتّى ، وأقصد بالعلوم الطبيعية هنا ما تنطوي عليه هذه العلوم مـن : معرفة وأصول وقوانين ومنهج تفكير ومعلومات ، ومفاهيم ونظريات وبحوث ، وتجارب ومكتشفات ونتائج دراسات وتنبّؤات .
وثمة مفهوم ضيق للثقافة ، وهو الأكثر شيوعاً وانتشاراً وارتباطاً بالأذهان ، ويتمثل بالنظر إلى الثقافة على أنها تعني الفكر والفن والأدب والإبداع فيها ، وعلى أساس هذا المفهوم ارتبط مدلول مصطلح (المثقّف) لدى العامة من الناس بصورة من يملك الفكر ، أو المعلومات أو سعة الإطلاع أو الإبداع في الأدب ، وكان يكفي للحكم على المرء بأنه مثقف (سواء لدى العامة أو الصفوة) أن يمتزج حديث الشخص بنتاج قراءات في الفلسفة والفكر ، وعلم الاجتماع والروايات والسياسة ، ولاسيما إذا تضمن كلامه في السياسة تفسيراً لكل حدث بأنه جزء من مخطط رهيب للمنطقة كلها ، وإذا تضمن حديثه في الاقتصاد تصويراً لكل نشاط بأنه يهدف للإمعان في إفقار الفقراء ، وزيادة غنى الأغنياء ومحو الطبقة الوسطى ، واستغلال الدول الغنية لخيرات الدول الفقيرة ، على أن يكون ذلك الحديث مشفوعاً ببعض المصطلحات التي شاعت فـي عهد مذاهب وأفكار سادت ثم بادت ، فبقي المصطلح متداولاً رغم أن الواقع أفقده رصيده من المعاني .
حين تغيب العلوم عن ثقافتنا :
على أية حال ، فإني أعتقد أنه لم يعد بمقدور المرء في وقتنا الحاضر أن يكون مثقفاً قادراً على التفكير السليم القويم ، وفهم الواقع ، وتصور المستقبل ، وإدراك التغيير المطلوب ، وتحديد المشاكل ، واقتراح الحلول ، والمشاركة في التوجّه والسير الإيجابي إلى ما يجب أن يكون ، ما لم يكن لديه حد أدنى ، ولو عامّاً ومبسّطاً ، من الإطلاع على النشاطات والنتائج والتنبؤات على صعيد العلوم الطبيعية ، والمكتشفات والدراسات والمخترعات والتوقعات في هذا المجال 0 فمن المستهجن مثلاً أنك لا تزال تقرأ لبعض المثقفين انتقادات لنظرية داروين تصل حدّ السخرية والتسخيف ، وهم لا يعلمون بالتأكيد أن النتائج العلمية لدراسة الجينيوم البشري وجينيوم الشمبانزي أكدت وجود تشابه تصل نسبته إلى 7ر98% بين DNA الإنسان وDNA الشمبانزي ، وحتى هذه النسبة اليسيرة من الاختلافات في هذه الـ (DNA) تشير الدراسات إلى أنها انبثقت عن أصل واحد كان يوماً غير مختلف ، فالجين المتعلق باللغة لدى البشر مثلاً اكتسب تطوراً سريعاً خلال المائتي ألف سنة الأخيرة ، وكذلك الحال بالنسبة لجينات أخرى تُميّز الإنسان .
وإليك مثالاً آخر عن حالة غياب العلوم عن تفكيرنا وأحكامنا ، فقد كنت استمعُ قبل مدة قصيرة إلى حوار بين مثقفين يناقشون كتاباً في برنامج تلفزيوني ، ويعيب بعضهم على مؤلفه الأمريكي ، لأنه فسَّر جانباً من سلوك المجتمع المتخلف بأنه تعبير عن إحساس لاشعوري بالمهانة والخزي والهزيمة ، فأخذوا على الكاتب بأنه يقدم تفسيراً فرويدياً ، وكأن ذلك عار ! وكأن نظريات فرويد في اللاشعور تنتظر تفنيدهم لها وهم لا يعلمون بالتأكيد أن أجهزة تصوير ومراقبة الدماغ العلمية قد اثبتت أنه بينما تعمل نحو ألفي خلية واعية من الدماغ في الثانية الواحدة ، فإن أربع مليارات خلية مما يقع في منطقة اللاوعي تعمل خلال تلك الثانية ذاتها ، على نحو يشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن معظم سلوكنا ينبع من اللاشعور ، وليس لنا أن نسخِّف من آراء فرويد ، الذي اكتشف تلك المنطقة وتحدث عن تأثيراتها .
العلوم 00 والثقافة الثالثة :
وبما أننا في مجال الحديث عن إدخال العلوم في ثقافتنا ومنهج تفكيرنا ، فإنه يجدر إبداء إشارة أخيرة ، وهي أن من مفكري الغرب مـن ميّز بين نوعين من الثقافة ، فذكروا أن هناك ثقافة المفكرين الأدباء ، وثقافة العلماء ، والثقافة الأولى هي التي أخذت المكان والتأثير في وسائل الإعلام ، وحياة عامة الناس ، بينما لم تتمكن الثقافة الثانية من أن توصل صوتها ، رغم أهميتها وتأثيرها واستنادها إلى أساس متين من العقل والتجربة ، وبالتالي فقد نشأت ثقافة ثالثة تخاطب الناس بحقائق العلم ، ولكن (على قدر عقولهم) ، وهي ثقافة تتزايد أهميتها في ضوء زيادة تأثير العلوم في الحياة الحاضرة ، وتوقّع تنامي تأثيراتها في المستقبل .
مكانةُ العُلومِ والتّفكيرِ العِلميّ ..
في وَسائلِ الإِعلامِ :
كلما قلَّبتُ الصُّحفَ بحثاً عن الأخبار ، والموضوعات والمقالات العلمية ، تذكرتُ عبارة المفكر والعالم المصري الدكتور أحمد مستجير التي يقول فيها : (لا يظهر العلم لدينا إلاّ على استحياء فـي أجهزة الإعلام من صحافةٍ وإذاعةٍ مسموعةٍ ومرئيةٍ) ، وتلك حقيقة ، فحتى في الصحف الأعرق ، والأكثر جدّية وشهرة وانتشاراً ، والأرفع مستوى والأكثر رقيّاً ، فإن موضوعات وأخبار ومقالات العلوم والبحث العلمي والتكنولوجيا ، تُنفى إلى مـا بعـد صفحات الوفيـات والإعلانات القضائية.. هناك نائية في آخر أجزاء الجريدة وآخر صفحاتها ، فلا يبلُغها القارئ إلاّ وقد ضاق عليه وقته ، أو ضاقت به نفسه .
العلوم هي الأهم ..
وإذا كان من معايير وسائل الإعلام في ترتيب أولويات موضوعاتها معيار الأمور الأكثر تأثيراً في حياة الناس ، فإن العلوم هي الأكثر تأثيراً بلا ريب ، وبخاصةٍ في عصرنا الحاضر ، فالعلوم ومنهج التفكير الذي قاد إليها ، وليس السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة ، هـي التي أتاحت لوسائل الإعلام ذاتها ، وبكل أشكالها ، أن تقوم وتنتشر ، وتغدو حاضرة في كل لحظة ، تغطّي الخبر وتنقلهُ وتبثّهُ وقت حدوثه ، ومن مكان حدوثه ، دانياً كان أم قَصيّاً , وحين كانت سياسة بعض الدول تفرض جداراً حديدياً يحول دون وصول بثّ الإعلام إلى مواطنيها حفاظاً على نمط اقتصادها ، وطبيعة ثقافتها ، ودكتاتورية سياستها ، فقد تمكَّن العلم من خَرقِ جميع الجُدُرِ والسدود والقيود ، وتسلل من خلالها ومن فوقها ومن أسفل منها ، بوساطة الفضائيات والانترنت وسواها، ولا حاجة بنا لأن نذكر كذلك أن العلوم ـ وليس سواها ـ هي التي ضاعفت من متوسط عمر الإنسان خلال سنوات قليلة فـي مقياس التاريخ ، وهي التي اختصرت الزمان ، وقرَّبتْ مسافات المكان ، وخففت الآلام ، وضاعفت انتاج الأرض ، وسهّلت سبل المواصلات والاتصالات ، وأتاحت وسائل الترفيه ، ويسّرت حياة الإنسان الذي خُلق أصلاً في كَبَدٍ ،أما إذا كان معيار ما تَنشُرُ وسائل الإعلام وتبثّهُ هو ما يهمُّ عامة الناس من أخبار ومقالات وموضوعات ، فإن العلوم في مجتمعاتنا لا تقع ضمن هذه الاهتمامات ، وبالتعبير الفلسفي فإن العلوم بالنسبة إلينا ليست (قيمة) ، والتفكير والبحث العلمي ليس منهجاً معتمداً في حياتنا ، غير أن من مهمة وسائل الإعلام ، إذا كانت ذات رسالة وطنية واجتماعية وإنسانية ، أن توجِّهَ الناس إلى ما هو مهم ، وإلى ما يستحق أن يكون محلاً لاهتماماتهم ، و(قيمة) فـي حياتهم ، ومنهجاً في تفكيرهم.
نشر العلـوم والتعريف بالمنهج العلمي يسمو بالتذوق ويرتفع بالاهتمامات لا يقتصر تأثير نشر الثقافة العلمية في الترويج للمنهج العلمي في التفكير (إن جاز هذا التعبير) ، فنشر العلوم بصورتها المبسّطة التي تخاطب غير المختصين ، تنطوي على تنبيه القارئ أو المتلقي إلى حقائق العلم ابتداءً من أجزاء الذرة ووصولاً إلى حركة المجرّة ، بما فيها من معلومات ومكتشفات ومخترعات ، ونتائج دراسات وتجارب مذهلة ، كل ذلك من شأنه أن يربّي الفرد على الترفع عن السفاسف في اهتماماته ، واللغو في حديثه ، والتافه فـي تفكيره ، والسخيف من انفعالاته , ومثلما أن الفنون تسمو بالنفوس ، وتهذب المشاعر ، وتصقل الأحاسيس ، وترتفع بالذوق ، فإن العلوم أيضاً ترتقي بالتفكير والقيم والاهتمامات .
نشر العلوم والتفكير
العلمي يحفز على التفكير بالمستقبل :
أما ما لا يقل أهمية عما ذُكِرَ من فوائد نشر العلوم ومنهج التفكير العلمي ، فهو حفزُ الناس على التفكير بالمستقبل والإعداد له ، وتصوّر ما سوف تكون عليه الأمور في ظل هذه القفزات والفتوحات المتلاحقة في عالم الاتصالات والرقميات والالكترونيات ، والجينات والفضاء ودراسة الدماغ البشري ، تلك القفزات التي تؤدي إلى تغيّرات سريعة فـي حياة الأفراد ، والمجتمعات والثقافات ، ومجالات العمل وعلاقات الدول ، على نحو يفوق تأثير السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة والفن والرياضة ؛ علماً بأن ما يستجدُّ من أخبارٍ وتطوراتٍ في مجال العلوم الطبيعية يفوق ما يستجد من أخبار السياسة والاقتصاد والثقافة ، كما أن التحليلات في هذه المجالات يغلب أن تكون مجرد فروض وتوقعات ، وانعكاس لآراء شخصية ورغبـات وأحقاد وأمنيات ، أما في العلوم فهي غالباً وقائع وحقائق ونتائج دراسات ، وحديث تنطق به التجارب وتصرح به المعامل والمختبرات ، ويقود إليه منهج التفكير القويم .
تعليقات
إرسال تعليق