القائمة الرئيسية

الصفحات



(1)
قال “نوري البغبغان” لأمه: يا أمي لماذا أنت وأخواتي تحرقون قلب زوجتي «ياسمين الشام، كلما التقتكم تتلبسوها بالحديث عن العلم، وكأن كل شيء في الدنيا انتهى، ولم يبق إلا العلم. 
 - كيف تقول لأخيك: «لا تفكر، دمّرنا التفكير، لا تفكر». قرارك الزواج من «ياسمين الشام» وهي غير متعلمة، هو الذي أوصلك لقول مثل هذا الكلام لأخيك وأنت المتعلم، المهندس، المدير في أكبر شركة سيارات في السعودية. 
ماذا نستفيد عندما نعرف أن الماس أصله كربون؟! 
قالت الأم لابنها “نوري البغبغان”: والله لا نتلبسها، “ياسمين الشام” أي كلمة نحكيها عن العلم تحسب أنها هي المقصودة فيها لأنها غير متعلمة، تخاف أن نزوجك عليها، الإنسان المتعلم بيته غير بيت الإنسان الجاهل، حياته غير، ولأنني حُرمت من العلم في طفولتي، أصريتُ على تعليم بناتي قبل أن أزوجهن. 
صمت “نوري البغبغان”، لم يدرِ بماذا يجيب. استغلّت الأم الفرصة، قالت له: احذر من جهل زوجتك، من جهل أنسبائك، واعلم أن حياة الفهيم مع البهيم داء سقيم. 
رد “نوري البغبغان”: لن أرحمكم إذا تأذّت زوجتي “ياسمين الشام”.
 - عندي حل، امنع أخواتك من ذكر شهاداتهم، ومن الحديث عن علمهم أمام زوجتك “ياسمين الشام”، أجبرهم على إخراج أبنائهم من المدارس ومن الجامعات فترضى ست الحسن والدلال “ياسمين الشام”، ولكن كيف تفعل مع بقية الناس الذين ما زالوا في المدارس والجامعات والمعاهد، تقول لهم: الله يوفقكم قولوا أمام زوجتي “ياسمين الشام” إنكم هجرتم المدارس والمعاهد والجامعات، وإنكم توقفتم عن العلم، لأنها تفقد أعصابها، تصاب بصداع لا دواء له. 
- في ناس كثير معهم ملايين، ولا يحملون شهادات، لكنكم تتجاهلون الحديث عنهم، لو أنكم تعجبون بإنجازاتهم تصير زوجتي «ياسمين الشام» في أحسن حال، وتقترب منكم كثيراً. 
- هناك أشياء غير المال يحتاجها الإنسان في الحياة.. أحضرها عندنا من جديد، نحضّر خطباً ونلقي قصائد بحضورها نمدح فيها الجهل ونمجد التياسة.
- لا داعي لذلك، اكتشفت بالصدفة المحضة أن لـ“ياسمين الشام” قدرات عالية في الرياضيات والفيزياء، وسأكمل لها دراستها..
 خرج “نوري البغبغان” من عند أمه وقد سيطرت عليه أحلام اليقظة: أدرّس “ياسمين الشام” حتى تحصّل أعلى الشهادات، عندها يشعر إخوتي بالدونية كلما اجتمعوا بها من كثرة الشهادات التي تحملها، ومن أهميتها، من الطلب الذي سيكون على علمها.. في يوم قريب يكون كلام زوجتي “ياسمين الشام” أهم من كلام إخوتي، وعي، ثقافة، حضارة.. قريباً «ياسمين الشام» من أقوى المثقفات في منطقة الشرق الأوسط، تنشر مقالاتها ودراساتها وأبحاثها في أكبر الجرائد والمجلات، أشهر الفضائيات تلهث وراء “ياسمين الشام” لعمل المقابلات..

(2)
قام «نوري البغبغان» برفقة زوجته “ياسمين الشام” بزيارة إلى دار أخته الكبرى في ضاحية الرشيد، كانت أخته الصغرى المقيمة في قطر حاضرة، قعدوا في زواية الحديقة، عند الباب الرئيسي الحديدي الكبير، تركوا الأرجوحة الضخمة لوزية اللون لـ”نوري البغبغان” وزوجته “ياسمين الشام”، والأختان بجانبهما على المقاعد البلاستيكية، خلفهم يتفتح الورد الجوري بألوانه الفاتنة، ويتسلق الياسمين البلدي السور يطل على الشارع، كان الزنبق الأبيض، والزنبق الأحمر، والنرجس البري حاضرين في الأحواض، ونباتات زينة رشيقة معافاة في أصص جديدة تغري الجميع بملامستها، تطوف بهم نسمات هواء عذبة طيبة منعشة، يحضر أبناؤهم يملؤون المكان فجاة بفتوتهم، بحيويتهم، بجمالهم الصاخب، ثم يختفون مثل الشمس في السماء كلما غطتها غيمة وانقشعت بسرعة. 
كانت “ياسمين الشام” تقول: الشوام يخرجون أولادهم من المدارس، يعلمونهم مهنة، وعندما يفتح ابنهم مصلحة، الكريم يقول له: خذ. لم يعد أحد يترك ابنه في المدرسة، مضيعة للوقت! 
 همست الأخت الكبرى وهي متوجهة للباب لتطلب من أبنائها إعداد الإفطار: سأقول لـ”ياسمين الشام”: هذه المعادلة لا تنطبق على إخوتك، فهم لا شهادات ولا صنعة، ينتظرون أخي “نوري البغبغان” يفتح لهم المحلات، أصرخ في وجهها: فررتم من علبة سردين في «الحجر الأسود» بوضح النهار حتى قبل أن تبدأ المعارك لتحتلوا شقة أخي “نوري البغبغان” الحديثة الـ200 متر في خلدا نزّال السكّر، مطلّة على شارع المدينة الطبية، وليفعل أخي “نوري البغبغان” ما يريد، فهذه السنة الرابعة التي تحتلون فيها شقته الحديثة الـ 200 متر في خلدا نزال الس.. 
كانت الأخت الصغرى تقول وهي تعدّل جلستها على الكرسي البلاستيكي: حصل شيء كهذا في كمبوديا عندما أعدم الخمير الحمر المتعلمين واتهموهم بالعمالة للأجنبي، الغريب أنك تُنظّرين للجهل، مع أني توقعت أنك تتصرفين على طريقة بطلة «بلزاك» الجميلة التي تزوجت الرسام! 
سألها الجميع: ماذا فعلت؟ 
صارت تشتري كتباً وتقرأ ليل نهار حتى تقترب من وعي زوجها، تشاركه حياته ونقاشاته مع أصدقائة المثقفين حتى لا تظل غريبة منبوذة بينهم. 
سألت الأخت الكبرى: صارت مثقفة؟ 
لا، وطلقها الرسام. 
تألم الأولاد الذين كانوا يملؤون الباب من هذه النهاية، فقالت الأخت الصغرى: الوعي له جذور، جدّكم، الله يرحمه، درس للسادس ابتدائي، وكان تاجر قمح وشعير وعدس، بيتنا مليء بأهم الروايات والقصص العالمية والعربية، ظل يقرأ إلى أن وصلنا التلفزيون. والتفتت إلى “ياسمين الشام”: قبل أيام حلمتُ بك يا “ياسمين الشام” تتصرفين على طريقة بطلة تورغنيف، بنت صاحب البنك التي رُبيت على الأرقام، وعندما اكتشفت وجود الفن بالصدفة، وقرأ لها أحد الأدباء الفصل الأول من «فاوست» انتحرت.
قفز «نوري البغبغان» عن الأرجوحة: ول، ول، تريدين أن تنتحر زوجتي، لا! كثير، تحرضين زوجتي على الانتحار..
 أجلسته “ياسمين الشام” من جديد على الأرجوحة، تقدمت منهما الأخت الكبرى تحمل صينية القهوة: «قهوة أهلا وسهلا». وتخيلت أنها تقول لأخيها “نوري البغبغان”: تمضي إجازتك مع حماك رجّاج الطوب وحماتك لبؤة الشام وأبناؤهم أبو ليث الميداني وفهد حارة الفوال ونمر الجزماتية، أنت المهندس المتعلم، كيف تطيق هؤلاء الجهلة في شقتك الحديثة الـ200 متر بخلدا نزال السكّر بإطلالتها الجميلة على شارع المدينة الطبية؟! كيف تحتملهم؟! ألا تخشى أن تصير جاهلاً مثلهم؟!.. ثم تخيلت أنها تصرخ في “ياسمين الشام”: لماذا تتكومون مثل دجاج المزرعة البردان في شقة أخي “نوري البغبغان” الحديثة الـ200 متر خلدا نزا..
 قالت “ياسمين الشام” وهي تهز الأرجوحة بقدميها: جميع من حولنا صارت أمورهم ممتازة إلا زوجي “نوري البغبغان”، كأنه منحوس، حتى الميكانيكية عنده صاروا أفضل منه، اشتروا أراضي وشققاً في مصر، في الهند، في البنغال، في السودان.. أقاربي صاروا مليونيرية من غير علم، من غير هندسة، من غير شهادات، وآخرهم زوج أختي متوسطة الجمال، حتى إنها عادية بالمقارنة بجمالي، فتح بالسعودية معمل بلاط ورب العالمين قال له خذ، الكل صار فوق الريح إلا “نوري البغبغان” ما زال ملتصقاً بالأرض.
اعترضت الأخت الصغرى: أخي “نوري البغبغان” مهندس لا تقارنيه ببليط. 
أزعجت أشعة الشمس “ياسمين الشام”، الدنيا ربيع إلا أن هذا اليوم وكأنه هارب من الصيف، نهضت عن الأرجوحة إلى كرسي بلاستيكي بجانب الأختين، قفز «نوري البغبغان، يهيّئ الكرسي البلاستيكي، يجلسها عليه. 
صرخت الأخت الصغرى: جاهلة، ثالث إعدادي لم تحصل، كم شهادة معنا وأزواجنا لا يطوفون بنا، ولا يهيئون لنا الكراسي.. 
 كانت الأخت الكبرى ترجو “نوري البغبغان”: اقعد، اقعد (تبكي، والتفّ حوله الأولاد) انحرق قلبي عليك، أول ما دخلت كنت أقول: معقول هذا أخي “نوري البغبغان” المتعلم المهندس، أين شبابك؟! أين حيويتك؟! أين ابتساماتك الحلوة؟! زواجك من امرأة جاهلة لم يكفِ، أحضرت لك كل أهلها من «الحجر الأسود».. كيف يمكنك التفاهم معهم؟! كيف يمكنك الانسجام؟!.. كيف تطيق الإقامة.. في شقتك؟! 
غادر “نوري البغبغان” وزوجتة “ياسمين الشام” تصرخ: نعود إلى الغربة لأنها أرحم منكم.
أصدر الباب الحديدي صريراً عالياً، انزعج لأن “نوري البغبغان” فتحه بخشونة لم يعتد عليها. 

(3)
قال “نوري البغبغان” لزوجته “ياسمين الشام” وهي طريحة الفراش: إذا ظللت تكررين أنا حلوة تحضر العفاريت، يقولون لك أنت جاهلة، أنت غير متعلمة. 
كانت “ياسمين الشام” تردد: والله، والله لأشكونكم لله. 
تخيّل “نوري البغبغان” أنه يصرخ في إخوته: انتبهوا ولا تستهزئوا بأحد، فالهاوية قريبة.. قلوبكم أشد قسوة من الصخر.. أشخاص ماتوا، لن أسمح لكم بالعودة.. 
كانت “ياسمين الشام” تلطم، تبكي: سحقاً لهذا الزمان، ماتت الرحمة، وخزياً لأخوّة كهذه، فالرجاء عدم الإحراج..
اقترب منها “نوري البغبغان”: لا تستسلمي، رددي: شكراً لمواقف أيقظتني وصنعتني من جديد، شكراً لدورس لم تكن بالحسبان..
- عندهم أجندة يفقدوني جمالي.. إلى من أوجعوني: لن أغفر لكم.. ذبحني الصداع، كله بسبب أهلك، أخواتك، يا لطيف!!
دخلت عليهم «لبؤة الشام» حماة “نوري البغبغان”: خبر حلو كثير، شيخنا أبو خطّين في عمان، وصل قبل أيام من الشام.
(كان آخر ظهور للشيخ أبو خطين في قرطاج قبل أربعة أشهر، قبل ذلك كان في القاهرة، في ليبيا، في..). 
دخلوا إلى أكثر من دار، عبروا أكثر من زقاق، صعدوا أكثر من سطح حتى وصلوا إلى الشيخ أبو خطين الذي سأل “نوري البغبغان” بعد سماع مختصر مفيد عن معاناته مع أهله: قلتَ مرة لإخوتك أنا الليلة رح أنزّل مناسف وكنافة خشنة وناعمة من أحسن مطعم في البلد، وطلبت منهم ألّا يتحدثوا عن العلم والشهادات التي يحملونها؟
- لا.
 - كنت رايح راجع إلى الشام، عمرك حملت لواحدة من أخواتك كيلو نمورة، مدلوقة، لبنية، آسية، بقلاوة، بلورية، عش البلبل كول وشكر من «أبو عرب»، من حيدر، من نفيسة؟
- لا.
 - ماذا أحضرت لهم بزيارتك هذه من السعودية؟
- لا شيء. 
 - عمرك دخلت عليهم تقول لهم: رحلة رحلة، آخذكم رحلة. تنزل فيهم هش ونش حتى يدوخوا، ثم تقول لهم: ولا كلمة عن العلم، عن الشهادات؟
- لا. 
 - كم بحثت عن الجزرة في تصرفاتك ولم أجدها، العصا تنكسر... في حالتك هذه لم يعد لديك إلا حل واحد، اقترب حتى أهمسه في أذنك.. 
(دخل “نوري البغبغان” الدار على أهله يصرخ: «رحلة رحلة..». عندما وصلوا الصحراء، أخرج سكيناً، وقطع رؤوسهم، وعاد إلى الدار برفقة زوجته “ياسمين الشام” فوجدهم بانتظاره يتحدثون عن العلم، عن الشهادات، عن نجاحات أبنائهم، فأخذ يصرخ: رحلة رحلة، هش ونش، مناسف، كنافة ناعمة، خشنة..).

قصة عبد الحليم أبو دقر
Reactions

تعليقات