ابراهيم كشت - راقِبْ شخصاً يحمل فوق ظهره شيئاً ثقيلاً يحاول نقله من مكان لآخر ، ستراهُ محدودباً، قاطب الوجه ، عابساً دون قصد، مشدود الأعصاب ، متصبب العرق ، مُنهكاً ، ينتظر اللحظة التي يستطيع فيها أن يضع حمله . وما أن ينزاح ذلك الثقل العظيم عن ظهره ، حتى تجده قد تنهّد بارتياح ، وبَدَتْ على مُحياه ملامح الرّضا ، واختلفت حاله تماماً عما كانت عليه وهو تحت وطأة ثقل ذلك الشيء الذي كان يحمله .
وربما سمّى الناس الشخص الذي نعاني من حضوره ، أو لا نطيق وجوده ، أو لا نحتمل سلوكه وأسلوبه وحديثه ، ربما سمى الناس مثل هذا الشخص بـ (الثقيل) لأن معاناتنا من حضوره ووجوده وسلوكه وحديثه ، تشبه معاناتنا ونحن نحمل شيئاً ثقيلاً ، لا نرتاح حتى نتخلص منه وينزاح عن كاهلنا ، وهذا تعبير لغوي بليغ في كل الأحوال ، فالضغط النفسي الذي نعيشه نتيجة حضور شخص لا يطاق يشبه الضغط المادي والنفسي الذي يعانيه من يحمل شيئاً ثقيلاً ، وإذا كان حامل الشيء (الثقيل) لا يرتاح حتى ينزاح حِمْلُه ، فإنّ من يكابد من وجود شخص (ثقيل) لا يخرج من حالة الضيق التي يعانيها حتى يفارقه ذلك الشخص .
الجَوُّ الذي يضفيهِ الشخص ..
ولا أدري لماذا استخدم الناس في اللهجة العامية المحكيّة تعبير (ثقيل الدم) للدلالة على الشخص الثقيل في وجوده وحديثه وسلوكه ، ربما لأن الدم يسري في سائر الجسد، كما يسري الثقل في كل حركات الثقيل وملامحه وكلامه وحضوره ، أو لأن بعض العامة ظنّوا أن سبب ثقل حضور الشخص يعود لكثافة دمه ، أو غير ذلك . لكن ثمة من يستخدم تعبير (ثقيل الظلّ) وفي مقابلها (خفيف الظلّ) وأجده تعبيراً أكثر بلاغة ، فظلّ الشيء وإن كان ليس جزءاً منه ، إلا أنه أثر من آثار وجود ذلك الشيء وحضوره ، وتستخدم كلمة (الظلّ) عادة للتعبير عن الجوّ الذي يضفيه الشيء حوله ، وعما يوحي به ويثيره في النفس من خواطر وأفكار .
خصال ثقيل الظلِّ ..
ولو أنك سألت عدداً من الأشخاص عن فهمهم لعبارة (ثقيل الدم) فربما حصلت منهم على إجابات متباينة ، لكنهم سيتفقون بالتأكيد على أن ثقيل الدم شخص لا نَسْعَدُ بوجوده ، ونستثقل حضوره ، ونحسُّ براحة إذا ترك مجلسنا أو تركنا مجلسه ، وسيتفق معظم الأشخاص الذين تسألهم على خصال تجعل من المرء ثقيل الدم ، ومن ذلك أن الثقيل يفتقد الإحساس المرهف واللباقة التي تجعله يشعر بأن من يستمعون له لا يطيقون حديثه ، أو أن من أتى لزيارتهم لا يحتملون مكوثه .
أَنماطٌ من ثقل الظِّلِّ ..
وكثيراً ما يكون ثقيل الدم ممن يطيلون الحديث ، فإذا بدأوا به لا ينتهون ، ولا يُتيحون لأحدٍ مجالاً للكلام ، فإذا تحدّث شخص آخر أسرعوا لمقاطعته ، ويغلُب أن يكون هؤلاء أيضاً ممن لا يتوقفون عن الحديث عن أنفسهم ، كأنهم محور الحياة ومركز الكون ومحط اهتمام الناس أجمعين ، وكأنهم هم وحدهم من يملك دائماً الرأي السديد والتحليل السليم والقول الفصل في كل شأن .
ومنهم كذلك (ثقال الدم) من يتكلّف ويتصنع ويدعي ويكثر من الاستعراض والتظاهر، مما يبعث في الناس عدم الرغبة في مجالستهم . ومن ثقال الدم أيضاً الملول ، والشكّاء ، وكثير الطلبات ، والملحاح ، والجامد الذي لا يبدي تجاوباً مع شيء ، والفظ الغليظ ذو الكلام العدواني ، وسواهم .
تفاوت الأذواق ..
وللشعور بثقل الدم علاقة – فيما أعتقد – بالإحساس بالجمال ، وبتعبير أدق الإحساس بجمال السلوك أو قبحه ، بدليل تفاوت ذوق الناس فيما يعتبرونه ثقيل الظل أو خفيفة وفقاً لتفاوت بيئاتهم وثقافاتهم وخصائص شخصياتهم ، وأذكر أني استمعت صدفة قبل سنوات لجزء من مسلسل إذاعي ، معظم الحوار فيه شتائم متبادلة بين أبطاله ، تخرج على لسانهم بلكنة عامية سوقية ، وبأسلوب مبتذل ، فقلت في نفسي (ما أثقل دمه من مسلسل) وبحثت عن محطة أخرى في المذياع ، وفي مساء ذلك اليوم ذاته كنت في زيارة ، فإذا بأحد الحضور يتحدث عن ذلك المسلسل إياه معجباً ، ويقول : كم أحبُّ ذاك المسلسل الإذاعي ، وكم يدفعني إلى الضحك!
وفي التراث العربي كثير من الأبيات الشعرية ، والقصص ، بل والكتب ، التي تذمُّ الثقلاء ، وتبالغ في ذمّهم ، وتتمادى في وصف أثر ثقلهم ، حتى ليفضل بعض من وصفهم دخول الجحيم على مصاحبة الثقلاء في الجنّة . ولعل العامل المشترك بين ما قيل في الثقلاء قديماً من شعر ونثر هو الاتفاق على اعتبارهم أصحاب خصال يكرهها الناس ، وطباع غليظة تجعل مجالستهم أمراً لا يطاق ، ومفارقتهم راحة وسعادة .
الثقلاء .. في الماضي والحاضر ..
ولئن كانت كتب التراث حين تتحدث عن الثقلاء تقرن ذلك بوصف مجالستهم ، فلأنّ جزءاً كبيراً من حياة الناس في الماضي كان ينقضي في المجالس والزيارات وتبادل الحديث المباشر ، ولم تكن وسائل الإعلام ، وبخاصة التلفزيون ، قد دخلت حياتهم بعد ، وبالتالي فإنه يجوز لنا في عصرنا الحاضر أن نتحدث عن مقدم برامج ، أو عن ضيف في ندوة أو حوار تلفزيوني يكون ثقيلاً ، أو ربما عن مسلسل أو نشرة أخبار ثقيلة الظل ، أو عن كتابٍ أو مقالة (كمقالتي هذه) تكون ثقيلة الدم ...!
تعليقات
إرسال تعليق