القائمة الرئيسية

الصفحات



 إبراهيم كشت
هل النكدُ طبيعة في النفس ، يُفطَرُ المرء عليها ، فهي من سجاياه وخصاله التي جُبلت عليها ذاته ؟ أعني هل ثمة (جينٌ) ضمن المنظومة الوراثية ، يحمل سمات الرجل النَّكِد ، والمرأة النكداء ، وينتقل عبر الأجيال ليحافظ على سلالة (المناكيد) ..؟ أم أن النكد سلوك مكتسب ، يرضعه الشخص صغيراً مع لبن أمه ، أو يلعقه مع طعامه بمجرد فطامه ، أو يتنشّقُهُ من الجو الملّوث السائد في أُسرته ؟ أو هل يكون النكد تُرى مرضاً نفسياً أو عرضاً لمرض ، لا يعرف كُنهه ولا يهتدي لجذوره الممتدة في مسارب النفس البعيدة ، إلاّ (فرويد) والذين ساروا على نهجه ، ممن يفقهون في علم نفس الأعماق ، وما في تلك الأعماق من مشاعر عدوانية وجنسية ورغبات مكبوتة ومكظومة ومدفونة ؟ أم هل هو (أعني النكد إياه) عَرَضٌ لمرض عضويّ ، أو خلل في الوظائف ، أو تلبكٌ في الهرمونات ، أو تخبطٌ في إفرازاتها ، أو خراب في التوصيلات بين الخلايا الدماغية المسؤولة عن إدارة شؤون اللذة والألم ؟ أم هل تُراه مجرد وسيلة يتخذها المرء لتصريف ما طفُحَ في وعاء الوجدان من فيض العدوان ؟ أو وسيلة يتخذها لتُعينه على التعبير عن كره الذات والأشياء والأحياء ؟ أم أن ماهيّة النكد تتضمن كل ذلك ، أو بعضه ، أو سواه ؟

في وصف النَّكِدين ...

كلمة (النَّكَد) ليست مصطلحاً علمياً ، غير أن لها في الأذهان معانيها ، وصورها ، وظلالها ، وإيحاءاتها ، وأبعادها ، ووقعها غير المحمود ، وفي ضوء ذلك فإن لهذه الكلمة مفهوماً سائداً مرسوم الحدود والمعالم والجوانب ، وخير من تلجأ إليه ليَصِفَ لك جوهر النكد وشكله وتجلياته وألوانه ، هـو من عاني من (النكديين) ، فإذا انبرى ليفسر لك النكد ، فسيقول لك غالباً : إن النكد يظهر عادةً في سيماء الوجوه ، فتكون ملامحها عبوسة كَشِرةً متجهِّمة ، وعضلاتها وانسجتها وخيوط أعصابها مشدودة ، فإن تحدّث النَكِدُ ارتجفت شفتاه ، وربما علا صوته ، وارتعدت جوارحه . تَراهُ يتخذ دائماً وضعاً نفسياً متحفزاً للدفاع والعدوان ، ووضعاً عقلياً لا يرى إلا الجانب المعتم السلبي ، ولا يشاهد من الناس إلا أخطاءهم . ولديه القدرة ، وربما الرغبة ، فـي تضخيم التوافه ، وتكبير الصغائر ، وتفسير الأمور على كل محمل سيء ، ونبش الماضي للبحث عما يساعده في (تنمية وتطوير) نكده . إنه يعيش الكرهُ ، فالكره والنكد صنوان ، ورفيقا درب ، يقتات كل منهما على الآخر .

طبقات المناكيد ..

فإذا طَلبتَ من صاحبك هذا أن يزيدك من علمه في ماهية النكد وتطبيقاته وضُروبه وتصنيف طبقات (المناكيد) ، فسيقول لك : إن التعامل مع أهل النكد عسير ، فمعظمهم سيء المعشر ، يظل يقلّب الأمر ليجعَلَ من اليسير مُعقّداً ، ومن البسيط مُركباً ، ومن السَّهل صعباً ، حتى تعافَ التعامل معه ، وتجدَ في الانسحاب من مجادلته السلامة . إنه يعشق كثرة الإشارة إلى العيوب ، وطول العتاب ، وكثرة الانتقاد ، ويرغب في أن يتخذ دور المعلم الواعظ ، والموجِّه المتسلط ، لا يكف عن اللوم ، ولا يرعوي عن محاولة إفهام من حوله كيف يجب أن يحيوا ، مع أنه في الحقيقية أكثر الناس حاجة للنُّصح ، وأكثر الناس صلاحية لأن يكون (مادةً) وموضوعاً للانتقاد واللوم والعتاب .

حال النكدين في الصباح ...

وإذا كانت العصافير تعشقُ الزقزقة في الصباح ، والأطفال يحبّونَ الابتسام عند الاستيقاظ ، والإيجابيون يتفاءلون باليوم الجديد عند شروق الشمس ، فإن (النكدين) يمارسون عادة أبشع تجليّات نكدهم في الصباح ، فحالهم عند الاستيقاظ كالوقود الذي يبحث عن أصغر شرر ليشتعل . ثم إن للنكد إشعاعاته الضارّة التي تلوث الأجواء ، وتستطيع بث التشاحن والتناوش والعصبية والهياج في أي مجموعة ، لمجرد وجود شخص واحد نكد بينهم ، لا ترتاح نفسه إلا إذا أضفى نكَدهُ على الجوِّ من حوله ، فكأنما لا يرضى إلاّ أن يكون حال المحيط الذي يعيش فيه ، مواتياً ومطابقاً لحال النكد المعشش في دخيلته .

والذي خبُثَ لا يخرجُ إلا نَكِداً ..

على أية حال ، فإن في المدلول اللغوي لكلمة النَّكدَ إضاءاتٌ ولفتاتٌ رائعة . حيث تقول معاجم اللغة إن النَّكِدَ شخصٌ عَسِرٌ شؤوم ، وإن نَكَدَ العيش يعني كدُره ، وإننا إذا قلنا : (جاء فلانٌ نَكِدَاً) فهذا يعني أنه غير محمود المجيء ! وتقول القواميس كذلك أن النكِدَ هو قليل الخير ! والواضح أن النَّكَدَ في الحياة والسلوك ، يحمل كل هذه المعاني اللغوية ، لأن فيه كثيراً من العُسر والشؤم والكدر، وقلة الخير ، وفيه الطَّلةُ غير المحمودة ، وغير المرغوبة ! وفي الآية القرآنية الكريمة (والبلدُ الطيّبُ يخرجُ نباتهُ بإذن ربه ، والذي خبُثَ لا يخرجُ إلا نَكِداً ..) ، وقد قال القرطبي في تفسير معنى (نَكِدَاً) في الآية : (النَّكِدُ هو العَسِرُ الممتنعُ عن إِعطاء الخير .. ) .

وبعد ،،

عندما أوشكتُ على ختم هذه المقالة أو (الخاطرة) ، رجعتُ إلى الأسئلة التي أثرتها في بدايتها حول جوهر النكد وماهيته ، لأتفكَّرَ في الإجابة ، غير أن عبارة الآية القرآنية التي سلفت الإشارة إليها ، ظلت تردد في ذهني دون سواها : (والذي خَبُثَ لا يخرج إلا نَكِدا ..)
Reactions

تعليقات