ابراهيم كشت - اقتبستُ عنوان هذه المقالة جزئياً من اسم كتاب رائع ، لم أقرأ قطُّ مؤلَّفاً أكثر منه عمقاً أو أشدَّ تأثيراً ، وهو كتاب المفكر اللبناني الدكتور مصطفى حجازي الموسوم بـِ (المجتمع المتخلّف – سيكولوجيّة الإنسان المقهور) الذي تحدَّثَ فيه المؤلِّف بعمقٍ وإطناب وشمول حول القمع كأحد أهم أسباب التّخلف ونتائجه في آن واحد معاً ، وضمن حلقة مفرغة وتأثير متبادل بين السبب والنتيجة .
كارثة القمع في المجتمعات العربية :
كنت قرأتُ كتاب (المجتمع المتخلف) هذا الكتاب قبلَ سنينَ عدداً ، حيث صدرت طبعته الأولى عام 1981 ، غير أنَّ ما أعاد تذكيري بأفكارٍ هضمتُها من مضمونه ، هو إطلاعي على كتاب آخر بعنوان (العرب – وجهة نظر يابانية) وضعه باحث ياباني أتقن اللغة العربية ، وعايش مختلف المجتمعات العربية لفترات طويلة ، حيث تحدَّثَ الكاتب الياباني عما أسماه (كارثة القمع في المجتمعات العربية) وهو يرى أن القمع يولّد الخوف ، والخوف مُعوِّقٌ كبير لنَماء وسَويّة الإنسان العربي ، إذ أنّـهُ يجعل الفرد مُنسلخاً عن الإحساس بالمجموع وبالقضايا العامة وبالملكية العامة كذلك .
عموم القمع في كل العلاقات :
ومما تذكّرتُه من أفكار الدكتور مصطفى حجازي في كتابه إياه ، حديثه عن عموم القمع في كل العلاقات داخل المجتمع المتخلف ، فهناك دائماً علاقة سيطرة من طرفٍ وخضوع من طرف آخر ، والأمر لا يقتصر على علاقة ذي السلطة بالمواطن ، بل يمتدُّ إلى علاقة الأب بالأبناء ، والرجل بالمرأة ، والعامل برب العمل ، والمدير بالموظف ، والمدرس بالتلميذ ... بل وعلاقة الإنسان بالحيوان والجماد . ويذكرُ الباحث الياباني شيئاً شبيهاً بذلك ، حين يروي قصة طفل شاهده في أحد الدول العربية يربط طائراً صغيراً من عنقه ويجرّهُ خلفه ، والناس تمر من جانبه دون أن تنهاهُ عن ذلك ، بمعنى أن المجتمع يتقبل دون اعتراض سيطرة قوة على أخرى اضعف منها ، على نحو أثار انتباه ودهشة الرجل الياباني .
في نفس كل مقموع دكتاتور صغير ..!
ومن المفارقات بشأن موضوع القمع أنه عادة ما يترعرَعُ في نفس كل مقموع ديكتاتور صغير ، فالموظف الذي عاش مقموعاً في مؤسسته سنين طويلة ، ما أن يصل الى مركز ينال من خلاله سلطة ، حتى ترى في ممارساته التعسُّف والقمع حيال المواطنين أو الموظفين الخاضعين له . والطفل الذي تربّى في المدرسة القامعة ما أن يشبَّ ويغدو معلماً حتى يكون أول المدافعين عن جدوى الضرب وعظيم أثره ! وينعى على أساليب التربية الحديثة تساهلها وعدم جدواها ! وتجده أشدّ قسوة ربما من معلميهِ أيام زمان ! ومن جانب آخر فإن القمع الذي تعانيه المرأة كزوجة أو ابنة أو شقيقة يكون عادةً متناسباً طردياً مع ما يعانيه الرجل المتسلط من إحساس بالقمع في عمله ومجتمعه وحياته .
المقموع إذا تحكَّم ..
وفكرة نشوء ديكتاتور في وجدان كل مقموع ، تفسر ربما كيف أن كثيراً من دُعاةِ العدالة والحق والخير، وأصحاب الأيدلوجيات الإنسانية والمبادىء الرفيعة والشعارات الطنّانة ، ما أن يتمكّنوا ويصبحوا في موقع السلطة ، حتى يمارسوا أشكالاً شتى من الظلم والبطش والقمع تخالف تماماً ما كانوا يدعون له ويضحّون لأجله !
التقرّب من القامع والمتسلّط ..
وفي ظل علاقات القمع ، يسود لدى الإنسان المقموع عادة شعور لا واعي يجعله يحدد قيمة ذاته واعتباره من خلال مقدار تَقرُّبه من القامع أو المتسلط ، وربما يلاحظ القارىء الكريم كيف يسود مجتمعنا التفاخر بمعرفة ذي المنصب او دعوته لوليمة أو الالتقاء به ... ويأخذ ذلك صوراً مختلفة ، كأن يتعمّد المتحدثُ ذكر اسم المسؤول بكنيته بدل اسمه ولقبه كنوع من الدلالة على شدة قربه منه ، أو يعرض على الآخرين بعض الخدمات التي يمكنه ان ينجزها لهم من خلال ذلك المسؤول كدليل على عمق صلته به . يضاف إلى ذلك أن المقموع يتماهى (حسب تعبير علم النفس الاجتماعي) بشخصية القامع ، والتماهي أعمق وأوسع من مجرد التشبُّه فهو عملية لاشعورية يتمثّلُ فيها الشخص وجود الآخر في حياته وشخصيته (أي وجود وشخصية ذلك الآخر) ، ويلاحظ القارىء مثلاً ، أن المجتمعات العربية تعتبر أمريكا الدولة الأكثر قمعاً لها، ومع ذلك فهذه مجتمعات هي الأكثر تقليداً لنمط حياة الأمريكان ولغتهم وفنونهم ولباسهم وطعامهم ، والأكثر رغبة بالحصول على تأشيرة لدخول بلادهم والحياة بينهم ... !
العدوان داخل نفس المقموع ..
ولأن القمع يخلق في النفس عدواناً مكبوتاً ، ولأن الواقع وحدوده وقيوده وضروراته تمنعُ المقموع من التعبير عن العدوان بشكل مباشر ، فإن ذلك العدوان يأخذ صوراً متعددة ذات منطلقات لاواعية ، فمختلف النّكات التي يتبادلها الناس حول المتسلط مثلاً ، شكل من العدوان اللفظي نحوه ، لأن فيها تقليلاً من قيمته والتعالي عليه ، أي قلب وهمي للأدوار حسب تعبير الدكتور حجازي في كتابه المشار إليه .
ومن أشكال هذا العدوان كذلك ، التعامل مع المتسلط بخداع وتضليل واعتبار ذلك شطارة وفهلوة ، ومن ذلك أيضاً الكسل في أداء العمل وبذل الحد الأدنى من الطاقة . ناهيك عن أن المقموع كثيراً ما يلجأ إلى توجيه عدوانيته إلى الآخر المقموع مثله ، فالآخر في مجتمعات القمع ينظر إليه عادة إمّا كمعيق لتحقيق الأهداف ، أو كأداة يمكن من خلالها تحقيق تلك الأهداف ، ولا ينظر إليه كإنسان مكافىء لنا من حيث انسانيته وحقوقه .
وبعد ..
وأختم هذا الموضوع بعبارة للدكتور هشام الشرابي وردت في كتابه النظام الأبوي حيث يقول (مجرد الكشف عن أسباب التّخلف لا يؤدي إلى التّغلُبِ عليه ، لكنه يتمكّن أحياناً من تغيير الوعي، وهذا هو الشرط الأساسي لتغيير المواقف والممارسة) .
تعليقات
إرسال تعليق