ابراهيم كَشت
عندما نَصِفُ عملاً ما ، أو نصف قولاً أو رقماً بالدِّقة ، فإننانقصد بذلك أنه قد توافر في ذلك العمل أو ذلك التعبير اللفظي أو الكتابي أو الرقمي مستوى عالٍ من التحديد ، بحيث أنه جاء محصوراً ضمن إطار واضح ، وأنه مطابق للواقع والحقيقة ، ومتوافق مع المعايير التي تحكم هذا العمل أو التعبير ، وأنـه يخلو من الخطأ والغلط ، ويخلو من الحذف والزيادة والتشويه . وبمعنى آخر فإننا حين نبحث عن مقدار الدقة في عمل ما ، أو في قول مكتوب أو منطوق بالحروف أو بالأرقام ، فإننا نبحث عن نسبة الصدق فيه ، ومقدار التحديد ، ومدى تقيّده بالمعايير الواجبة التطبيق ، ونحكم عليه بأنه غير دقيق حين يكون معمماً فضفاضاً مائعاً ، غير محدد المعالم بشكل قاطع ، أو حين لا يعكس صورة الحقيقة كما هي ، أو لا يكون متوافقاً مع المعايير والقواعد التي يجب أن يتقيد بها العمل أو التعبير ، بحيث تشوبه عيوب وأخطاء .
أي أنواع الخطاب أقرب للدِّقة ، وأيها أبعد عنه٫ ؟
الدقة سمة خطاب العلم وخطاب العقل والمنطق ، أما أكثر أنواع الخطاب بعداً عن الدقة ، وتنافياً معها ، فهو خطاب الشوارع والأسواق والمجالس والصالونات ، والإعلام والسياسة ، والدعاية والترويج والتسويق ، حتى حديث الأدب والفن فإنه كثيراً ما يكون مجافياً للدقة . فللدقة علاقة وثيقة بالصدق ، لكنها ليست مرادفاً له ، وعندما نكون مثلاً أمام تعبير مجافٍ للواقع ومنافٍ للحقيقة ، لا نقول أنه تعتبر غير دقيق ، وإنما نصفه بأنه كاذب أو غير صادق . لكننا نقول إن التعبير غير دقيق إذا كان فيه جانب من الحقيقة ، غير أنه لم يذكر الحقيقة كاملة ، أو ذكرها منقوصة ، أو اجْتزَأ منها ما شاء وأغفل ما شاء ، أو أضاف إليها شيئاً يخالف الواقع ، أو بالغ في وصفها . وفي ضوء هذا الفهم فإن عدم الدقّة كثيراً ما تكون أخطر من الكذب الكامل ، لأن الخطاب الذي يتضمن جزءاً من الحقيقة لكنه يكون غير دقيق ، أقرب إلـــى أن يُصَدّقَ من قبل الناس ، وأقدرَ على التأثير من خطاب الكذب الكامل أو الكذب البواح .
غياب الدِّقة الناجم عن اغفال جزء من الحقيقة :
أضرب مثلاً على خطورة غياب الدقة الناجم عن ذكر جزء من الحقيقة والتغاضي عن جزء آخر ، أو ذكر الحقيقة مبتورة أو مبالغاً في وصفها : ما درسناه على مرِّ السنوات في المدارس حول التاريخ العربي الإسلامي ، حيث حَرِصَتْ المناهج (بحسن نية بالتأكيد) على عرض الجوانب المشرقة من ذلك التاريخ ، وأغفلت (بحسن نية أيضاً) الجوانب السلبية ، كما أغفلت أثر الحضارات القديمة الأخرى التي قامت في الصين والهند واليونان ولدى الرومان وسواهم ، فكانت النتيجة أجيالاً كاملة درست التاريخ واقتنعت به على هذا النحو ، فباتت تنكر الآخر أو تقلل من شأنه ، وتكاد تنفي وجوده ، وتعتقد بأنها وحدها سبب كل خير وتقدم نال البشرية ، وأنها هي من ابتدع الحضارة ، وأنه لم تكن ثمة حضارة في الأرض لولاها ، وكان مثل هذا التفكير الأحادي النظرة ، الناجم عن عدم الدقة ، سبباً من أسباب ظهور أشكال من التطرف غير القادر على تصّور وجود الآخر ، أو الاقتناع بحُريته ، أو كرامته ، أو حقه في الحياة والاعتقاد والرأي والتعبير ...!
غياب الدِّقة الناجم عن عدم التحديد :
للدقة علاقة وثيقة بالتحديد ، فهي تقتضي التعبير عن الشيء بذاته ، ووضعه ضمن إطار واضح المعالم ، بعيداً عن التعميم والتعمية والنأي عن الجوهر ، وأذكر في هذا الصدد بعض التجارب التي مرّتْ بي خلال التدريس في دورات تدريبية ، كان جميع المشاركين فيها ممن يحملون الشهادة الجامعية الأولى على الأقل ، ويملكون المميزات التي جعلت القطاع الخاص يختارهم موظفين لديه ، لكن ما أن تسألهم عــن تفسير مفهوم أي مصطلح متداول ، حتى تسمع منهم عجباً ، يدلّك على مقدار غياب الدقة عن منهج تفكيرنا وتعبيرنا ، فهم يذكرون لك كل ما يخطر ببالهم عن ذلك المفهوم ، دون أن يمسّوا جوهره أو يفسّروا معناه ، أو يتمكنوا من وضع مدلولاته ضمن إطار يميزه عما سواه . حتى كنتُ أُضْطَر لأنْ أقول لهم : كأني بكم لو سألتكُم عن معنى كلمة (قلم) لقلتم لي : إنه يستخدم من قبل الكبير والصغير ، وهو ضروري ، ويباع في الأسواق ، دون أن يخطر لأحد منكم أن يقول : إن القلم أداة للكتابة والرسم على الورق .. لأستطيع تمييز الدفتر من القلم من أي سلعة أخرى .
علاقة الدِّقة بالجودة :
للدقة علاقة وثيقة بمفهومٍ ظهر حديثاً في مجال الصناعة والخدمات والإدارة وعالم الأعمال ، وهو مفهوم (الجودة) ، وتهتم الجودة بشكل أساسي بمقدار التقيد بالمعايير التي تحكم العمل ، والمواصفات التي يجب أن تتوافر فــي السلعة أو الخدمة ، وقلة الأخطاء ، وإنجاز الأشياء الصحيحة بطريقة صحيحة من أول مرة ، وبالتالي نجد أن الدقة جوهر أساسي في مفهوم الجودة هذا ، ومقتضى رئيس من مقتضياته ، حيث تصل بعض الشركات العالمية الكبيرة نتيجة تقيُّدها بمعايير الجودة (بمختلف أسمائها وأنواعها) إلى درجة انحدار نسبة الأخطاء في إنتاجها ، بحيث لا يتعدى 3.4 خطأ في كل مليون عملية تقوم بها ، ولك أن تقدر بالتالي نسبة الدقة في إنتاجها .
وبعد :
المهم في الأمر أن (الدقة) معنى يتغلغل في صلب ثقافة المجتمع أو يغيب عنها ، فالدقة (قيمة) ، وجزء من منهج التفكير ، وعادةٌ في السلوك والعمل والتعبير ، وحين تغيب ، يسود الخطاب القائم على المبالغة والتحريف ، وتقلّ الشفافية ، وينتشر نمط التفكير المعمم غير القادر على التحديد والإلمام بالتفاصيل ، وتنحدر نسبة الإتقان والجودة في العمل والإنتاج ، ويزداد بُعدُ المسافة بين الألفاظ والمعاني...
تعليقات
إرسال تعليق