القائمة الرئيسية

الصفحات



 تبسيط العلوم يعني عرض المفاهيم الأساسية ، والجوانب المهمة أو الجديدة من تلك العلوم ، بأسلوب مُيسَّرٍ ، يستوعبه ويتفاعل معه غير المتخصصين ، على نحو يضمن تقبُّلهم لتلك العلوم ، وانجذابهم إليها ، وتأثرهم بها ، وإدراكهم لقيمتها في الحياة ، بشكل يجعلها تنعكس على منهج تفكيرهم واهتماماتهم وسلوكهم .
تبسيطُ العلومِ .. حاجَةٌ حَضاريّةٌ :
تبـدو الحاجـة إلى تبسيط العلوم بالمفهـوم أعلاه ، جدُّ مهمـة ، بعـد أن بات العلم الحقيقة الأعمق تأثيراً في حياتنا ، والأكثر قدرة على تغيير أنماط التفكير ، وطبيعة القيم ، وأشكال السلوك ، وأنواع الاتصالات . كل ذلك في ضوء التقدُّم الهائل المؤثِّر في مجال الحواسيب والانترنت والفضائيات والاتصالات وشتّى التقنيات ، عدا عما جرى ويجري من اكتشافات في دنيا الجينات وعالَم تقنية النانو ، وقد شَكَّلَ كل ذلك عاملاً كان الأكثر تأثيراً في نشوء الظاهرة الحضارية الرّاسخةِ الكاسِحةِ المُسماة بالعولمة ، وهي التي استطاعت أن تؤثر بفاعلية في السياسة والاقتصاد والثقافة ، على نحو يتجِّه بعزمٍ وسرعةٍ إلى (صيرورةِ العالم واحداً) . وبغض النظر عن موقفنا المؤيد أو المعارض للعولمة فإنها ظاهرة مازالت تمتدُّ وتشتدُّ وتنتشرُ ، مُبشِّرةً (أو مُنذرة) بقلب الكثير مـن الموازين والمقاييس ، وفضح عورات المجتمعات المتخلفة في عقر دارها ، وتَعرِيَة الثقافات التي تحطُّ من قيمة المنطق والعلم والعمل والإنجاز الفعلي ، بحيث تفقأ هذه العولمة فقاقيع التغزّل بالذات ، والادعاء والزِّيف والتغني بالأمجاد التليدة ، التي تمتاز بها المجتمعات المتخلفة عادة ، لتكون الميزة ـ في ظل العولمة ـ لمنهج التفكير السليم ، وللاقتدار المعرفي ، وللعمل ، والنتائج الملموسة على أرض الواقع .
تبسيط العلوم .. وسيلة
لخلق وتعزيز التفكير العلمي :
ربما تبرزُ أهميّة تبسيط العلوم على نحو أكثر جَلاءً ، وأشدَّ وضوحاً ، في البلدان النامية ، حيث إن لعرض العلوم بشكل مبسّط يخاطب العامة ويَشدُّهم ويقنعهم ، دوراً مهماً في خلق وتعزيز الأسلوب العلمي في التفكير لدى النشء ، بل لدى عامة الناس ، لأن عرض مناهج العلماء في التعامل مع الوقائع والمشاكل ، ووضع الفروض وجمع المعلومات والتحليل والتجربة ، والوصول إلى النتائج التي أتاحت لنا كل هذه المكتشفات والمخترعات التي ارتقت بحياة الإنسان ، لا بد أن تؤثِّر فـي المُتلقّي لتبديل أساليب التفكير القائم على التقليد ، والإتباع ، وتوارث الأفكار ، واقتباس الحلول الجاهزة ، وتفسير الظواهر بما يجافي المنطق ، ليحل مكان كل ذلك التفكير العلمي الموزون ، ناهيك عن أن لتبسيط العلوم دوراً مهماً فـي مقاومة الخرافة ، والخرافة هي ألدُّ أعداء العلم ، وأعتى خصومه ، وهي البديل الذي يحتل مكانه حين يغيب .
ولتبسيط العلوم فوائد جمّة أخرى :
إضافة لما تقدم ، فإن لتبسيط العلوم دوراً في إزالة الحاجز النفسي الذي يقوم بين الناس وبين تطبيقات بعض العلوم ، كالحاجز الذي يمنع الناس من مراجعة الطبيب النفسي عند الحاجة ، أو الحاجز النفسي الناجم عن الخوف مـن الجديد ، والذي يحـول دون استخدام البعض لجهاز الكمبيوتر . ولتبسيط العلوم كذلك دور في إزالة الاتجاهات السلبية والمفاهيم الخاطئة ، التي ترتبط ببعض مجالات تطبيق العلم ، فمن الضروري مثلاً أن يتم السعي لإبطال النظرة القاصرة المحدودة إلـى الإنترنت على أنه مجرد وسيلة تسلية وترفيه ، واستبدال هذه النظرة بالنظرة الموضوعية الشاملة إلى هذه الشبكة الجبارة على أنها وسيلة تتيح للمرء كمّاً هائلاً من المعلومات ، التي يمكن الوصول إليها وتبادلها بسرعة هائلة ، لم تكن متاحةً للبشرية في أي يوم من الأيام .
أضف إلى ذلك إن تبسيط العلوم عملية من شأنها خلق قيمة العلم والبحث العلمي في وجدان أفراد المجتمع ، أو تعزيز تلك القيمة ، لتأخذ مكانتها كقيمةٍ سامية ترتقي فوق القيم الرديئة كقيم الاستهلاك والاستعراض ، وقيم الحسب والنسب وسواها . وكل ذلك من شأنه خلق اتجاهات ايجابية نحو دعم العلماء والمبدعين والمبتكرين ، ووضعهم في المنزلة التي يستحقون .
كما أن تبسيط العلوم وسيلة لنشر الوعي الصِّحي على مستوى الصحة النفسية والجسدية ، ووسيلة للتوعية بالفوائد الحقيقية لمختلف المخترعات والتقنيات ، بحيث لا ينظر إليها على أنها وسائل تفاخر واستعراض ، فهي وسائل لتسهيل الحياة والتغلب على الطبيعة ، وتجاوز حدود الزمان والمكان ، وحل مشكلات الإنسان . وتبسيط العلوم وسيلة أيضاً لإزالة الجهل الذي ينجم عنه العداء على أساس مبدأ (الإنسان عدو ما يجهل) ، فانظر مثلاً كيف يُناصِبُ الكثيرون علوم الجينات والهندسة الوراثية أشد العداء ، لأنهم لا يفهمون منها سوى أنها وسيلة لتشويه خلق الله ومخالفة العقائد والأديان .
وسائل تبسيط العلوم :
لقد ذكر الباحثون في مجال تبسيط العلوم وسائل عدة يمكن أن تتم مـن خلالها عملية تبسيط تلك العلوم منها : الكتب ، ومقالات الصحف ، وبرامج التلفزيون ، والمحاضرات ، التي تشرح المبادئ الأساسية لبعض العلوم ، وصلتها بالحياة وأهميتها وتأثيرها ، ومن تلك الوسائل أيضاً أفلام الخيال العلمي المنضبطة المدروسة ، والجمعيات والأندية العلمية . وحريّ بالذكر أن منظمة اليونسكو تمنح جائزة (لتبسيط العلوم) باسم جائزة (كالينجا) للمتميزين في هذا المجال ، كما أن بعض الدول كالهند تمنح مثل هذه الجائزة لمن لهم نشاط مميز فـي مجال الكتابة أو المحاضرة ، أو تقديم البرامج التي تبسّط العلوم .
التبسيط أصعب من التعقيد ..!
إن ما يجعل من (تبسيط العلوم) نشاطاً يستحق التشجيع والتحفيز وتقديم الجوائز ليس أهميته التي سبقت الإشارة إليها وحسب ، فثمة سبب آخر ، وهـو أن عملية التبسيط ذاتها صعبة ! وربما كان شرح بعض العلوم ـ بحيث يفهم مبادئها غير المتخصصين ـ أشدّ عُسراً من طرحها بصورتها المعقدة الموجهة لأصحاب الاختصاص ، فعملية التبسيط هذه تتطلب المزيد من القدرات والمهارات ، أهمها : اللغة ، وأسلوب العرض ، والقدرة على الإقناع ، وربط الحقائق والنظريات بالواقع والحياة وإظهار فائدتها .
العلوم الإنسانية يمكن تبسيطها أيضاً :
لئن كان مصطلح (تبسيط العلوم) ينصرف فيما يبدو إلى العلوم البحتة أو العلوم الطبيعية والتطبيقية ، فإني أرى أن تبسيط العلوم الإنسانية مهم أيضاً ، فليس أروع من أن يُكتَبَ في الاقتصاد والقانون ، والإدارة وعلم النفس والتربية وعلم الاجتماع ، والفلسفة والمنطق والفن والنقد الأدبي .. أقول ليس أروع ولا أنفع من أن يُكتب فيها لغير المتخصصين في مجالها ، بلغة ميسّرة واضحة شارحة تكثر فيها الأمثلة من الحياة ، وتقل فيها المصطلحات الفنية والمعادلات والمنحنيات . وأزعم هنا أن من أسباب الجفاء بين عامـة الناس والفلسفة ـ مع أنها أُمُّ العلوم ومنطلق التفكير الصائب والمنهج الذي سبق الاختراعات ـ هو أن الفلاسفة لم يتمكنوا من طرح أهمية هذا العلم بأسلوب مبسّط يفقهُهُ غير الفيلسوف ، ويتقبّله غير المتخصص ، حتى باتت الفلسفة مرتبطة في أذهان كثير من الناس بالعلم الذي لا ينفع ، أو النظرية المنفصلة عن الواقع والحياة ، وباتت ترتبط في حديث البعض بما هو أقل من ذلك ، فإذا جاوز أحدٌ حدود الأدب في الحديث قالوا له : (بلا فلسفة وقلة حيا ..!) ، وهكذا غابت الفلسفة إلى حد كبير من بين التخصصات التي تدرس في الجامعات ، رغم أهميتها وجدواها ، فليتها وَجَدتْ مـن يبسّطها بطريقة تبسيط العلوم منذ زمن بعيد .
أما بعد ،،
فهذه دعوة من خلال هذا المقال المتواضع ، لأن تنبري جهة رسمية أو خاصـة تقيمُ للعلم وزناً ، وتؤمـن بضرورة تنمية المجتمع فـي هذا الجانب ذي الأهمية ، فتخصصَ جائزة لتبسيط العلوم .. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

 إبراهيم كَشت
Reactions

تعليقات