القائمة الرئيسية

الصفحات



هل يجوز الدخول من باب الأدب عند تناول موضوع نفسي ذي أبعاد تربوية مثل موضوع (الانتباه) ؟ أعتقد أنه لا حرج في ذلك ، فالمتميزون المبدعون من الأدباء يملكون قدرة فائقة على تحليل جوانب من النفس الإنسانية ، وتقديم صور لها ، لا تقلُّ في دلالتها وعمقها عما يقدمه علماء النفس ، بل ربما تزيد عليها أحياناً ، بما تضفيه على هذا التحليل من ظلال وألوانٍ وحركة . أقول ذلك لأن أول ما تذكّرته في مجال الحديث عن الانتباه ، تلك الرواية الرائعة للكاتب الايطالي «البرتو مورافيا» وعنوانها (الانتباه) ، وفيها يقول : ( إن اللاانتباه أصل الشرور كافّة ) وهو يَردُّ في روايته هذه سبب مأساة «أوديب» الملك في قتله أباه وزواجه من أُمه ، دون أن يدري ، ثم انتشار الطاعون في بلده ، إلى عدم الانتباه الذي كان يعيشه (أي أوديب) ، حتى أن العقوبة التي نالها ، وهي فقأُ عينيه ، كانت عقوبة على اللاانتباه الذي اقترفه ، وليس على ما قام به بحق أمه وأبيه ، وهي العقوبة التي يجب أن تقع على كل من يعيش حالة عدم الانتباه ، وفقاً لرأي مورافيا ، الذي يشير في موضع آخر من روايته إلى أنه بات يعرف معنى (اللاانتباه) لكنه لم يتوصل بعد إلى مدلول (الانتباه) ...! 

دلالاتُ الإنتباهِ والتنبُّه ..
يشير مدلول الانتباه إلى تركيز الوعي على شيء معين ، أي توجيه النشاط العقلي إلى ذلك الشيء ، مع استبعاد المثيرات الأخرى المحيطة التي تسبب التشتت ، وتُخرِجُ الموضوع الذي نركّزُ عليه من بؤرة الوعي . وسوف اجتهد بالقول إنه يجوز لنا توسيع مفهوم (الانتباه) هذا ، لنعبّر عن درجة متقدِّمةٍ منه ، يمكن أن نسميها (التنبُّه) ، وأعني بالتنبّه هنا ذلك التوجّه أو السلوك الذي يُعبّر عن اليقظة المستمرة، والدأب على ملاحظة مختلف المثيرات وانتقاء ما يتطلب منها الاهتمام والتفكر والاستجابة ، إنه نمط من الصلة بالواقع ، يقوم على أساس الالتفات الواعي إلى كل ما يدور ويتحرك في ذلك الواقع مما يحمل أثراً وأهمية . وبهذا المعنى فإنه إذا كان ضدُّ الانتباه هو التشتت وعدم التركيز ، فإن ضد التَّنبُّه هو (الغفلة) ، غفلة المرء عما يحيط به ويجري حوله ، وذهوله عن كثير من المعطيات والإشارات التي كان يجب أن يلتفت إليها .

قيمنا تُحدد ما ننتبه إليه ..
وإذا كان مقدار الانتباه الذي يمارسه الشخص يتعلق بعوامل متعددة ، حتى أنه يرتبط بعمل قشرة مقدمة الفص الجبهي من الدماغ ، الذي يقوم بوظيفة التركيز على المهم بالنسبة للشخص واستبعاد غير المهم ، ويتأثر الانتباه بأي خلل في أداء هذا الجزء من الدماغ لوظيفته، كما يذكر الدكتور (دانيال آمين) في كتابه (غيّر من عقلك ، تتغير حياتك) ، فإن للاهتمامات ، وبالتالي (القيم) ، دوراً مهماً وأساسياً في مسألة ما ننتبه إليه ، أو نغفل عنه ، نركّز عليه ، أو نسمح لأي مثير آخر أن يشتتنا عنه ، فنحن أكثر انتباهاً إلى ما يَهمُّنا ، وإلى ما نقيم له وزناً ، ولا ننتبه غالباً إلى ما لا نبالي به .

تزايد المُثيرات التي تُلفتُ الإنتاه ..
وتتزايد أهمية موضوع الانتباه في عصرنا الحالي ، بسبب التنامي المضطرد في حجم المثيرات التي يمكن أن تلفت الانتباه ، وتشدَّ الاهتمام ، وذلك بسبب كَمْ المعلومات والرسائل والاتصالات وبثّ وسائل الإعلام التي يتلقاها الفرد ، ناهيك عن أساليب التسويق التي تتبع كل ما أتيح لها من طرائق علمية مدروسة ، في سبيل اقتناص انتباه الأشخاص لمختلف السلع والخدمات التي تستعصي أعدادها على الحصر . ومن شأن هذا الحجم المتزايد من المثيرات أن يضاعف من احتمالات التشتت ، أو يوجِّه الانتباه أحياناً إلى ما هو ليس مهماً ، أو ليس نافعاً ، أو لا يعطي قيمة مضافة ، بل وإلى ما هو ضحل وسخيف في كثير من الأحيان . ولعل تزايد أهمية موضوع (الانتباه) على النحو المتقدم ، هو ما جعل بعض المراجع الإدارية تعتبره (أي الانتباه) مورداً مهماً من الموارد ، أي أداة من الأدوات اللازمة للإنتاج وتحقيق الأهداف ، حيث أضحى الانتباه وتقليل التشتت وحسن توجيه هذا الانتباه إلى ما هو أكثر جدوى وأهمية سبباً في زيادة الإنتاج والكفاءة والفاعلية والجودة في عصرنا الحالي ، بل باتت تلك المراجع تتحدث عن (إدارة الانتباه) بنفس الطريقة التي تتحدث بها عن إدارة الموارد الأخرى ، التي تشكل عناصر أساسية لا غنى عنها للوصول إلى الأهداف .

قصور الإنتباه ..
وربما أصبح ضرورياً عند التطرق إلى موضوع الانتباه ، أن تتم الإشارة إلى جانب ذي علاقة وثيقة به ، غدا الاهتمام ببحثه يتزايد أيضاً ، ويتمثل هذا الجانب فيما يسمى بـ (اضطرابات قصور الانتباه) ، وكثيراً من يكون هذا الاضطراب مرتبطاً بفرط الحركة والاندفاع ، وقد قرأت في كتاب بعنوان (اضطرابات قصور الانتباه وفرط الحركة) للدكتور «كمال سيسالم» أن المصابين بهذا الاضطراب يعانون عادة ، وبدرجات متفاوتة ، من التشتت وصعوبة التركيز ، والفوضى ، والاندفاع ، وضعف العلاقة مع الأقران والأخوة والأخوات ، والسلوك العدواني، وضعف مفهوم الذات ، وتدني درجة الثقة بالنفس ، وضعف التناسق الحركي، وشدة الإصرار والإلحاح على تنفيذ طلباتهم . أما الدكتور (دانيال آمين) الذي سبق أن أشرت إلى كتابه ، فيذكر من صفات من يعانون قصور الانتباه أنهم عادة ما يبدأون الأعمال ولكنهم لا يتمونها ، ويندفعون في القول فيبدر منهم نحو الآخرين ما يجب ألا يقال، وهم يخطئون في تصرفاتهم نتيجة اندفاعهم ثم يندمون ، لكنهم لا يتعلمون من هذا الخطأ والندم ، كما أنهم يتّسمون بالفوضى في التعامل مع الوقت ، وتأخير الأعمال حتى آخر لحظة ، واستغراق وقت في أداء العمل يفوق ما يستغرقه الآخرون ، إضافة إلى الفوضى في التعامل مع الأشياء وفقدانها وإدامة البحث عنها ، وهم يسعون لا شعورياً لإثارة الفوضى والتوتر وخلق الصراع ، في محاولة منهم لايجاد دوافع للتنبُّه الذي يفتقدونه . 

إنتشار حالة قصور الإنتباه ..
ويبدو أن نسبة انتشار اضطراب قصور الانتباه بين الطلبة غير قليل أبداً ، حتى أن بعض الأبحاث ذكرت أنه يصل إلى ما نسبته 20% من طلبة المدارس الأمريكية . على أي حال فإن أهم الإرشادات التي يقدمها الدكتور سيسالم لأولياء الأمور في كتابه (الذي تقدمت الإشارة إليه) في تعاملهم مع اضطرابات قصور الانتباه والحركة المفرطة هي : ألا يحمِّلوا أنفسهم أو غيرهم مسؤولية معاناة أبنائهم من هذا الاضطراب ، فيغرقوا في الشعور بالذنب ، لأن العوامل المؤدية لهذا الاضطراب متعددة ومتداخلة ولا تُلقى فيها التبعة على أحد ، مع ضرورة الاعتماد على آراء المختصين في تشخيص الحالة ، وضرورة الانتباه إلى المشكلات الأخرى الناجمة عن هذا الاضطراب كالاكتئاب والعدوان ، وقد تحتاج بعض حالات قصور الانتباه إلى الأدوية، لكن لا غنى في كل الأحوال عن العلاج السلوكي .


إبراهيم كشت 

Reactions

تعليقات