(رسالة أب إلى ابنه)
بُنيَّ يا أحبَّ الناس أجمعين ...
أقول لك باللهجة العامية الدارجة (إنتِ لِسَّه ما بتعرفْ قيمة القرش) ، فترفع حاجبيك استغراباً ، وتردُّ عليَّ بنبرة ودودة بريئة ، امتزج فيها الاستنكار بالتعجب: (وهل للقرش يا أبي من قيمة ؟) . نعم يا بني ، للقرش وزن واعتبار ، ونحن نستخدم هذا اللفظ (أي القرش) على وجه المجاز ، من قبيل دلالة الجزء من الشيء على الشيء كلّه ، ومن باب أن ما كان كثيره مهماً فقليله أيضاً مهم . وعلى ذلك ، فإننا نعني بالقرش المال ، أي كل ما له قيمة في التعامل ، بما في ذلك النقود التي نحصل عليها كدخل ، وننفقها ثمناً للسلع والخدمات .
إثنان لا يعرفان قيمة القرش ..
وثمة - يا ابْني - اثنان على وجه الخصوص ، لا يعرفان قيمة ذلك القرش: أولهما من لم يتعب في حياته قَطّ ليحصل على المال ، والثاني من لم يأتِ عليه يوم أحسَّ فيه بالحاجة إلى المال فلم يجده . أجل ، فالذي لم يعمل بعد لا يستطيع أن يدرك أن الحصول على القرش من خلال العمل يحتاج إلى بذل الجهد والوقت ، ويتطلب تحملاً للضغوط ، وصبراً على الضوابط والتعليمات والأوامر ، وجلَداً على المثابرة لأجل التطور والتميّز ، وقدرة على التكيف مع الرؤساء والمرؤوسين والزملاء والمتعاملين ، مما يورث تعب الجسد ، وإرهاق الأعصاب، وانشغال الذهن .
الفرقُ بين العمل واللّعب ..
العمل - يا بنيَّ - ليس كاللعب ، وأنت لم تجرِّب بعد إلا اللعب ، فأن تلعبَ يعني أن تفعل ما تريد ، أما العمل فهو أن تفعل ما يجب ، وشتّان بين هذا وذاك . وكم عرفتُ يا – ابْني - في حياتي العملية ، شباباً التحقوا بالوظيفة ، لكنهم ظلّوا لا يدركون ذلك الفارق بين أن تلعب وأن تعمل ، ولا يحسّون به ، وبقي بعضهم غير قادر على أن يتفهّم أن الأجر الذي يتقاضاه ليس حقاً له معلوم ، يُقَدَّمُ إليه دون جهد ، ودون التزام بالتعليمات والأوامر ، فهو يحسب أنه سيحصل على ذلك (القرش) كما كان يحصل على (المصروف) من والده ، ثم لا يكون مصيره في ظل مثل هذا الاعتقاد إلا الفشل .
لا يعرِفُ طعمَ الفقرِ إلاّ من ذاقَهُ ..
أما ذاك الذي قلت لك إنه لا يعرف قيمة (القرش) لأنه لم يُجرِّب معنى الحرمان ، ومعنى أن يحتاج للقرش في مسألة ملحّة ثم لا يجده ، فإني أرجـو لك - قبل كل شيء- ألا تعيش الفقر ولا الحرمان ولا الحاجة ، وألا تذوق لأي منها طعماً ، فطعمها مرٌّ لا يعرفه إلا من ذاقه . لكني أتمنى عليك أن تُفيد من تجارب غيرك ، فالدهر ذو دول ، وأحوال الزمن متقلّبة ، ولا يأمنُ تبدّل الظروف إلا من كانت به غفلة وقلّة حكمة .
ولستُ أدري يا بني ، ربما كنتُ أكتب إليك إحساساً مني بذنبٍ أقترفُهُ ، وأنا أُجيبك إلى جُلِّ طلباتك ، وأُلبّي ما استطعتُ من رغباتك ، مدفوعاً ربما بالحب وعاطفة الأبوة ، أو بالخوف من أن ينالك أي حرمانٍ نالنا فلم نرضهُ لك . أو بالخشية من أن تُحسَّ بأي نقصٍ بين أقرانك ، أو لأي سبب لا واعٍ لست أُدركه ، أو لكلِّ ذلك أو لشيء منه .
خلفَ كلِّ قرشٍ قطرة عَرَقٍ ..
وما ألحظُهُ - أيها الغالي – أنك كمثل الكثير من أبناءِ جيلك ، لا تكادون تقيمون لشيء وزناً ، ولا تقدّرون له ثمناً ، تعافون الأشياء بسرعة ، تركنونها ، أو تلقون بها ، أو لا تلتفتون أصلاً إليها ، ثم تطلبون أشياء أخرى ، لا تلبثوا أن تملّوها ، فإذا غابت الحاجة من نفوسكم ، تكفّلت الدعاية والإعلان بإنباتها وتنميتها وإظهارها . تطلبون وتلحّون ، فإذا اعترضتْ أحدَكم أي مشكلة ، بَحَثَ عن أسهل الحلول وأعجلها ، حتى لو كان الحلَّ الأكثر كلفة مالياً ، دون أن تدركوا أن خلف كل قرش قطرة عرق ، وربما قطرة من ماء الوجه أحياناً .
إنّما المرءُ بإنجازِهِ ..
يا بني ، إنما المرء بإنجازه ، وقيمته الذاتية والاجتماعية بما ينتجه ويتقنه ويتميّز فيه ويبدعه ، فدعنا نتعاون ، أنت وأنا معاً ، كي تتعلم أن للأشياء ثمن ، وإن الثمن هو ذلك (القرش) الذي نجهد لنحصل عليه ، ونعاني إذا لم نجده عند حاجتنا إليه ، وأن ثمة أناساً في مجتمعنا ، وفي العالم كله ، لا يجدون من القروش ما يسدون بها حاجاتهم الإنسانية الأساسية . فلا تستهنْ بالنعمة ، ولا تحسبنَّ كل شيء سهلاً ، ولا تظنّ أن الرزق مطرٌ ينهمر من السماء . وتذكّر أن واجبي نحوك هو أن أُعدّك للمستقبل ، شاباً مستعداً للعمل ، قادراً على الإنجاز ، مهيّأ للإبداع ، لا مائعاً ، ولا مُدللاً ، ولا اتكالياً ، ولا عاجزاً عن العطاء ، وأخشى إن قصّرتُ في ذلك ، أن تكون أنت – حين تكبر – أول اللائمين ... ودُمتَ لأبيك الذي يَعْدِلُ أملهُ فيك حبهُ الكبير لك .
- إبراهيم كشت
تعليقات
إرسال تعليق