لاشك أن النفس شيء عظيم ، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بها ، وعلى مر القرون أحتار العلماء في فهمها ودراستها ، ولا زال الغموض يحيط بها حتى يومنا هذا خصوصاً بين الناس ، فعلى الأغلب يعتقد الناس أن النفس شيء وهمي غير ملموس وغير محسوس ، ويربطها البعض بالروح أو يعتبرونهما شيء واحد ، وهذا الغموض عادة ما يؤدي إلى الكثير من الخلط في الأمور التي تتعلق بالنفس وبالروح .
تبقى الروح في علم الله ولم يستطع العلم الحديث تحديدها ودراستها بشكل واضح ، أما النفس فقد تمكن العلم من دخول دهاليزها وأعماقها ، وأصبح من اليقين أنها جزء من دماغ الإنسان وتم تحديد العديد من الأجزاء والأنوية في الدماغ التي ترتبط مع بعضها بشبكة معقدة من الإتصالات ، وتضم في ثناياها العواطف والمزاج والذاكرة والإنفعالات المختلفة ، كما تضم الطباع وسمات الشخصية المختلفة ، ومعروف أن الخلية العصبية كوحدة عمل في الدماغ تقوم بتوصيل المعلومات على شكل موجات كهربائية ، وهذه الخلايا تتصل مع بعضها البعض بواسطة المشابك ، والمشبك هو فراغ ميكروسكوبي صغير يفصل بين الخلايا العصبية ، وحيث أن الشحنة الكهربائية لا تستطيع أن تقفز من خلية لأخرى عند كل مشبك ، فقد أبدع الخالق سبحانه وتعالى تركيب المشبك بحيث احتوى على مواد كيماويه تقوم بتوصيل المعلومات من خلية لأخرى ، وكل خلية تتصل مع الآلاف الخلايا ، وفي باطن الدماغ مليارات الخلايا ، وفي المشابك عشرات المواد الكيماوية التي تم اكتشافها ودراستها ، منها ما هو مسؤول عن تخفيف التوتر ومنها ما له علاقة بالمزاج والمتعة ، وبعضها مسؤول عن تخزين الذاكرة والمعلومات وهذه الكيماويات تسمى الناقلات العصبية الكيماوية .
ومن الواضح أن النفس هي شبكة معقدة جداً من الكهرباء والكيمياء تتصل بالعالم الخارجي عن طريق الحواس الخمسة كمستقبلات ، ويخرج عنها الكلام معبراً عما في النفس من مشاعر وأفكار ومعلومات وأحاسيس ، كما تتصل النفس إتصالاً وثيقاً بأجهزة الجسم المختلفة في الدماغ والغدد والقلب وجهاز التنفس والهضم وغيرها ، فتؤثر فيها وتتأثر ،كما أن النفس بكل تركيبها المعقد تشكل الفرد بشخصيته وذكائه وعلاقاته مع الناس والبيئة من حوله بكل ما فيها من أحداث وأفراح وأحزان . ومن الأمثلة على هذه التفاعلات ، كيف أن منظراً لا يعجبك في الشارع أو تصرفاً غير لائق قد يؤدي لزيادة حموضة المعدة والألم ، أو مرور الفتاه بحالة من التوتر في فترة الامتحان قد يؤدي لإنقطاع الدورة الشهرية وغيرها الكثير من الأمثلة التي تدل على سيطرة النفس وما بها من مشاعر على وظائف الجسد وآلامه المختلفة .
وحتى يكون تعريف النفس مكتملا ً لابد أن نتعرف على علم النفسي وهو العلم الذي يعني بدراسة النفس والسلوك بدءاً في الديدان والحيوانات البسيطة مروراً بالفئران والقرود ووصولاً للإنسان ، وهو يحاول إن يتعامل مع النفس في كل مجالات الحياة ومراحل العمر ، أما لطب النفسي فكغيرة من فروع الطب معني بالإضطرابات المختلفة التي يمكن أن تصيب هذه النفس ، فيدرس أعراض هذه الأمراض ومظاهرها وإيجاد الخلل الحاصل في مراكز النفس المختلفة . وفي معظم الإضطرابات النفسية قد تم إكتشاف الإشكالات الكيماوية سواء النقص أو الزيادة في الدوبامين والأدرينالين أو اختلال توازن الأستيل كولين أو إضطراب السيرتون . كل هذا في سبيل مساعدة الإنسان الذي يصاب بهذه الإضطرابات النفسية المختلفة والتي تنتشر إنتشاراً كبيراً في العالم ، وتشير الإحصاءات المختلفة بأنها تصيب أكثر من خُمس البشر ، وإن التمعن في هذا كفيلاً بإلغاء الفكرة الخاطئة عند الناس بأن المرض النفسي جنون و علاجه المخدر ، و لاعجب أن تصاب شبكة الإتصالات النفسية المعقدة بإضطرابات مختلفة و لابد إن نحرص هنا على التأكيد أن التطور العلمي قد تمكن من حل بعض ألغاز هذه النفس ووفر لها بعض العلاجات الكيماوية المناسبة كمضادات الإكتئاب ومضادات الذهان وغيرها .
إن البحث العلمي في الدماغ مازال يتسارع ويكتشف يومياً المزيد من المعلومات عن كل من الناقلات العصبية الكيماوية ، ولكل ناقل من هذه الناقلات مستقبلات تستقبله في الخلية التالية ، فإذا كان الناقل الكيماوي السيرتونن قد عرف أن له مستقبل واحد في بداية إكتشافه إلا أنه مع الوقت قد زاد الأن عدد مستقبلات السيرتونين عن الستة عشر، ومن الواضح أن الخلية الواحدة تتأثر بالعديد من الكيماويات عبر العديد من المستقبلات لتخرج بتوازن من هذه السمفونيه الكيماوية وتعطي إشارة جديدة للخلية التالية قد تزيد أو تخفض من إنطلاقها أو توصل لها المعلومة أو تساعد في تخزينها أو تولد الشعور بالفرح أو الحزن وغيرها
د. وليد سرحان
تعليقات
إرسال تعليق