رغم أن (الوضوح) من القيم ذات الأثر والأهمية في الحياة الإنسانية ، وبخاصة في مجالات اللغة والاتصال والمال والأعمال والاقتصاد والسياسة ، ورغم أن لغياب هذه القيمة آثاراً سلبية نفسية واجتماعية على مستوى العلاقات ، وعلى مستوى حياة المجتمع كلها . فإني أَحسَبُ أن ما حظي به (الوضوح) كقيمة ومفهوم من اهتمام ودراسة وبحث ما زال قليلاً، ويحتاج إلى المزيد .
معنى الوضوح :
في محاولة لتفسير معنى الوضوح ودلالاته وأبعاده ، أسوقُ عبارة موجزة ورائعة ، أوردها الفيلسوف الفرنسي «لالاند» في موسوعته الشهيرة ، يقول فيها (الواضح هو ما يكون ظاهراً ، ويقدّم نفسه بنفسه) . فعلاً ، الواضح يكون ظاهراً لا خفياً ، معلناً لا سريّاً ، بيّناً لا متوارياً ولا محتجباً ، ولا مختبئاً خلف ستار ، إنه كما الشمس الساطعة في كبد السماء الصافية عند الظهيرة في يوم صيفي . والواضح كذلك يقدّم نفسه بنفسه ، فهو ليس مبهماً ولا غامضاً ولا ملتبساً ، ولا يثير الحيرة ولا الشكّ والتساؤل ، ولا يستعصى على الفهم .
نحن لا نطيق الغموض ...
لعل من الجوانب النفسية المهمة المتعلقة بموضوع الوضوح ، أن الإنسان بطبيعته لا يطيق الغموض ولا يحتمله ، فإذا وجد نفسه أمام ظاهرة أو حدث أو واقعة لم يستطع فهمها ، راح يستكمل الصورة من خياله ، ويقدم تفسيراً من عند نفسه ، ثم يُصدِّقهُ ، ويكون بذلك قد تغلب على الغموض المنكود ، ووصل إلى ما يحسبه الوضوح المنشود . ألم ترَ كيف أن الإنسان القديم كان يعجز عن تفسير المرض مثلاً ، فيفترض له أسباباً من عند نفسه ، ويرد البلاء للأرواح الشريرة وغضب الآلهة والدم أو الهواء الفاسد ، ثم يروح يتعامل مع افتراضاته كأنها حقيقة ، لأنها أراحته من الغموض وأوصلته إلى ما يعتقده وضوحاً . وهذا ما نجده كذلك عند المجتمعات التي تغيب عنها المعلومة ، حيث تلجأ الى نشر الإشاعة وتصديقها سعياً منها لإزالة الغموض الذي يحيط بالأحداث والوقائع من حولها ، أو تروح تفسر تلك الأحداث من خلال نظرية المؤامرة كطريقة تريحها أيضاً من الغموض وتشعرها – ولو كذباً – بالوضوح .
الوضوح في اللغة ...
على مستوى اللغة ، نقول عن العبارات إنها واضحة ، إذا كانت تعبِّرُ عن الموضوع وتبين مضمونه ، ومداه ، وتميزه عن سواه ، بحيث نفهم منها ما أُريد الأخذ به وما أُريد تركه ، دون أن تدع مجالاً للشكِّ في معناها ، ودون أن تحمل مدلولات متضاربة ، أو يتداخل مفهومها بمفاهيم أخرى مشابهة . وربما لهذا السبب نجد أن العلوم والفنون التي تهتم باللغة العربية قد سُمّيت بأسماء تدلّ على الوضوح ، فالبيان مثلاً من (بان) بمعنى اتضح وظهر ، والفصاحة من (فصح) ، حيث يقال فصح الصبح بمعنى بان واتضح ضوؤه ، ويؤيد هذا الفهم قول الجاحظ في حديثه عن البيان (كلما كانت الدلالة أوضح وأفصح ، وكانت الإشارة أبين وأنور ، كان أنفع وأنجح).
الوضوح في الاتصال الانساني ...
وللوضوح في مجال الاتصال الإنساني أهمية عظيمة ، فسواء أكانت الرسالة الاتصالية لفظية منطوقة أو مكتوبة ، أم كانت غير لفظية بالإشارة أو اللمحة أو الابتسامة أو النظرة أو الإعراض أو سوى ذلك . فإن لوضوح هدف الرسالة ومضمونها الأثر الأكبر في وصول المعنى من المرسل إلى المتلقي (المستقبِل) ، لذلك فإن العلم الذي يدرس الاتصال الإنساني يهتم ببحث أنواع التشويش والمعوِّقات التي تحول دون وصول الرسالة بوضوح ، سواء أكانت هذه المعوقات نفسية أم تنظيمية أم تقنية أم اجتماعية وثقافية . وينبغي أن لا يستهان بالأثر المترتب على عدم وضوح الرسالة في عملية الاتصال ، لأنها تسبب كثيراً من المشاكل على مستوى العلاقات في الأسرة والعمل والمجتمع بوجه عام ، وكذلك في مجال التعليم والإدارة وسواها .
الوضوح والشفافية ...
أما على مستوى المال والأعمال والاقتصاد والسياسة ، فقد ظهر قبل سنوات قليلة مصطلح جديد ليعبِّر عن الوضوح كقيمة ومفهوم ، وهو مصطلح (الشفافية) ، وصار استخدامه شائعاً وواسعاً في شتى ضروب الخطاب والإعلام . وأصل لفظ الشفافية بطبيعة الحال ذو مدلول مقتبس من علم الفيزياء ، فالشفافية في الفيزياء هي خاصية السماح للإشعاعات بالمرور من خلال مادة معينة . فإذا كان الزجاج شفافاً مثلاً فإن مرور الأشعة من خلاله تسمح برؤية ما خلفه بوضوح. وعلى ذلك استخدم تعبير الشفافية ليعني الإفصاح وإتاحة المجال للناس للاطلاع على المعلومات ، مع الانفتاح على الجمهور والاطلاع على التغذية الراجعة منهم ، وكل ذلك يتيح مجالاً أوسع للمحاسبة التي تغيب غالباً في ظل التكتّم والسرية والغموض .
وقد قامت مؤسسات عالمية ومحلية مهمتها رعاية الشفافية ، وهي تنظر إليها كأهم وسيلة للحد من الفساد ومكافحته بمختلف أنواعه . كما بات لفظ الشفافية أساساً في ترويج الشركات والمؤسسات العامة والخاصة والأحزاب لنفسها ، بحيث أصبحت تُدْخِلُ مصطلح الشفافية في استراتيجياتها وبرامج عملها ، حتى صار يُخشى أن يتم النظر إليها (أُعني إلى الشفافية) كشعار وليس كقيمة ومعنى لهما دلالات وتطبيقات .
وبعد هذا وذاك ....
هناك عبارات جميلة وموحية للروائي حنا مينا يعبر فيها بصورة أدبية عن أهمية الوضوح والشفافية وأثر غيابهما ، وقد أوردها في روايته (الرجل الذي يكره نفسه) ويقول فيها : ( حين تصير الأشياء في الضّوء ، تستنير بأشعّة الشّمس ، تتطهّر ، أمّا عندما تظلّ في العتمة ، فإنّها تتعفّن ، وتنبعث منها رائحة كريهة ) ، وللرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر أيضاً عبارة تؤدي معنى قريباً من هذا المعنى يقول فيها : ( التأكيد على السريّة سيجعلها ، إن آجلاً أو عاجلاً ، أداةً لتغطية الأخطاء ) .
إبراهيم كشت
تعليقات
إرسال تعليق