يلاحظ في السنوات الأخيرة انتشار جوائز المسابقات والجوائز الترويحية، حيث أخذتْ حيزاً كبيراً في حياة الناس ومعاشهم بشكل لم يُسبق إليه من قبل، لا سيما في مواسم الطاعات والعبادات كما في شهر رمضان المبارك، إلى درجة أنَّ كثيراً من الناس قد تنشغل قلوبهم بآمال الفوز بإحدى تلك الجوائز والتي قد تكون ذات قيمة كبيرة، في الوقت الذي ينبغي على المسلم أن ينصرف في هذا الموسم إلى الحصاد الأخروي بدلاً من الزائل الدنيوي.
ولما كان الأمر واقعاً في عصرنا الحاضر وجب بيان الحكم الشرعي فيما يتعلق بتلك الجوائز، خاصة مع كثرة تنوع الجوائز وتعدد أشكالها، وأيضاً ما يصاحب ذلك من استفتاءات الناس واستعلامهم عن الحكم الشرعي.
يمكن تصنيف صور الجوائز المعاصرة لا سيما التي تُطرح في شهر رمضان إلى الأنواع التالية:
أولاً: الجوائز العلمية والثقافية:
وهي ما تقوم به المؤسسات العلمية ومراكز الأبحاث والجمعيات الخيرية من إجراء مسابقات علمية وثقافية، ثم تقوم بتوزيع الجوائز على الفائزين، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
جوائز المسابقات القرآنية والعلوم الشرعية : حيث تقوم كثير من الجمعيات الخيرية ومراكز تحفيظ القرآن الكريم بإجراء مسابقات حفظ القرآن الكريم وتجويده ومعرفة معانيه، كذلك تجري مسابقات في شتى العلوم الشرعية من فقه وتوحيد وتفسير إلى غيرها من العلوم النافعة والمطلوبة.
الجوائز الثقافية في الصحف والمجلات : تنشر معظمُ الصحف والجرائد والمجلات مسابقاتٍ ثقافية وعلمية على صفحاتها، وذلك بالإعلان عن مسابقة ثقافية تتضمن سؤالاً أو عدة أسئلة حول أي موضوع، وتشترط للمشاركة في المسابقة الإجابة عن السؤال في المكان المخصص والذي يُسمى بقسيمة المسابقة، بحيث تكون القسيمة أصلية غير مُصوَّرة، ثم تقوم بجمع القسائم وفرزها، وتُستبعد الإجابات الخاطئة، ثم تقوم باختيار الفائزين عن طريق القرعة.
جوائز المسابقات في القنوات الفضائية : حيث تَطرح القناةُ مسابقة ثقافية معينة، سواء اشترطت حضور المتسابقين إلى القناة لإجراء المسابقة بينهم، أو اكتفت بعرض الأسئلة على المشاهدين بشكل عام، وحتى تتم المشاركة في المسابقة تطلب القناة من الراغبين في المشاركة بالاتصال بها أو بإرسال رسالة نصية، كي يجيب المتسابق عن السؤال المطروح، مع الإشارة بأن قيمة الاتصال بالقناة تزيد على التعرفة المعهودة.
حكم جوائز المسابقات العلمية والثقافية:
إجراء المسابقات العلمية والثقافية مشروع في الجملة، بل قد يقال إنَّ أول من أجرى مسابقة ثقافية هو رسولُنا - صلى الله عليه وسلم -، فعن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدِّثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟، قال: هي النخلة)
قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه للحديث: "وفي هذا الحديث فوائد منها استحباب إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليختبر أفهامهم ويرغِّبهم في الفكر والاعتناء، وفيه ضرب الأمثال والأشباه"
وقد نُقل عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه كان يُلقي المسألة على ابنه أبي عثمان وتلميذه الحُميدي، ويقول: مَن أصاب منكم فله دينار.
فالمسابقة العلمية والثقافية من الأمور التي رغَّب فيها الشارع، لما فيها من النفع والخير وتنشيط العقول وإذكاء الهمم.
الحكم الشرعي إذاً هو جواز إقامة المسابقات العلمية والثقافية والتشجيع عليها بالجوائز القيمة، وهو مذهب الحنفية واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، إلا أنه ينبغي مراعاة الضوابط التالية عند إجراء المسابقات العلمية والمشاركة فيها:
• أن يكون موضوع أسئلة المسابقة من الأمور المفيدة والنافعة، لا أن تكون أسئلةً عن الفن المبتذل كالأفلام الهابطة والأغاني التافهة وغيرها من الموضوعات التي لا تعود بالنفع على الناس.
• من الضوابط المهمة والتي تصلح أن تكون قاعدة في موضوع الجوائز، أنَّ كل مسابقة تكون جوائزها من أموال المتسابقين أنفسهم فهي من القمار المحرَّم، وقد أشكل ذلك على البعض حكم المسابقات التي تجريها الصحف والمجلات، فإنَّ المتسابق يدفع مالاً وذلك عندما يقوم بدفع قيمة الصحيفة أو المجلة حتى يتمكن من المشاركة في المسابقة، فهل يدخل ذلك في القمار؟
وفي المسألة تفصيل:
يُنظر في قصد المشارك في المسابقة عندما اشترى الصحيفة، هل كان قاصداً الانتفاع بالصحيفة وقراءتها، أو كان قاصداً المسابقة ذاتها؟
فإن كان قاصداً الانتفاع بالصحيفة، ويُعرف ذلك بالقرائن كمداومته على شراء الصحيفة يومياً أو كان لديه اشتراك سنوي مع الصحيفة، فعندئذٍ لا حرج عليه بالمشاركة في المسابقة، وفي حالة فوزه بالجائزة يجوز له أخذها، وأما المال الذي دفعه للصحيفة، فهو في مقابل شيءٍ ذي قيمة وفائدة، إذ ينتفع بما يُنشر في الصحيفة من أخبار ومقالات وإعلانات، فبذلك تزول شبهة القمار.
وأما إن كان قاصداً بشراء الصحيفة الاشتراك في المسابقة والحصول على الجائزة، فلا شك أنَّ هذا داخل في القمار، والمال الذي دفعه إنما أنفقه في حرام، وإن فاز في المسابقة وحصل على الجائزة، فالجائزة عليه محرمة.
ومن خلال الضابط السابق يمكننا الحكم على المسابقات الثقافية التي تطرحها القنوات الفضائية، فإنهم إن اشترطوا الاتصال للمشاركة في المسابقة، فيُنظر فيما يلي:
إن كان سعر الاتصال هو ما حددته شركة الاتصالات من غير زيادة في التكلفة، وعُلِم أنه لا اتفاقَ بين المنظِّمين للمسابقة وبين شركة الاتصال على أن يكون المال الوارد من المكالمات بينهما، ففي هذه الحالة لا حرج من المشاركة في المسابقة، ويكون المال الذي دَفَعَه من خلال إجراء المكالمة هو كالأجرة التي يدفعها المتسابق لمن يوصله إلى مكان السِّباق.
أما إن زيد في سعر الاتصال وهذا ما يحدث غالباً، فالحكم أن المسابقة قمارٌ قطعاً وبلا شك، ولا يجوز للمسلم أن يشارك فيها.
• من الضوابط كذلك أنه عند إجراء المسابقة الثقافية ينبغي البعد عن طرح الأسئلة الموهمة والصعبة والتي قد تسبب إشكالاً واضطراباً لدى المتسابقين والمشاهدين، ويُطلِق العلماءُ على مثل هذا بالأغلوطات، وقد ورد النهي عنها، فعن معاوية - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغَلوطات (وفي رواية الأغلوطات)، ويُفسِّر الإمامُ الأوزاعي - وهو أحد رواة الحديث - الغَلوطات بأنها: شداد المسائل وصعابها، قال الخطَّابي: " أراد المسائلَ التي يُغالَط بها العلـماء ليزلوا فيها، فيهيج بذلك شر وفتنة، وإنما نهى عنها لأنها غير نافعة في الدين ولا تكاد تكون إلا فيما لا يقع "
وقال ابن حجر: " ثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جداً،
وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن ".
مجموعة الرقابة للاستشارات الشرعية
تعليقات
إرسال تعليق