تستحوذ كثير من وسائل الإعلام في الوقت الحاضر على اهتمام وانتباه المشاهدين، وتكاد تحاصرهم في كل مكان وفي جميع الأوقات.
ومع تطور الأحداث السياسية تزداد حالة الاحتقان والغضب، وتزيد حالة التوتر بشكل عام، مع كثرة متابعة الأحداث، ورؤية مشاهد العنف المتكررة، ومن هنا "لا غرابة أن تتأثر صحة الناس النفسية بشكل سلبي جراء ذلك"، وفق مختصين ودراسات.
وتشير دراسة أميركية نشرت في مجلة "بروسيدينغز أوف ذي ناشونال أكاديمي أوف ساينسز" إلى أن الأشخاص الذين يشاهدون أحداث العنف عبر وسائل الإعلام كثيرا ما يصابون بصدمات نفسية أشد تأثيرا من تلك التي تصيب الأشخاص الذين يعيشون في قلب تلك الأحداث المؤلمة.
وأفادت الدراسة أن الأشخاص الذين يتابعون تفاصيل تلك الأحداث لمدة ست ساعات، أو أكثر يوميا، يكونون أكثر عرضة للإصابة بضغط نفسي حاد، بنسبة تسعة أضعاف، مقارنة بالأشخاص الذين يستمر اطلاعهم على وسائل الإعلام لمدة ساعة واحدة في اليوم.
على الصعيد النفسي لرؤية العنف يشير الاختصاصي النفسي، د. محمد الحباشنة، إلى أن المتابع للأحداث يتعرض كل يوم لمشاهد العنف، وهو ما يُدخله في أزمات نفسية، مبينا أن 50 % تقريبا من المشاهدين يصابون باضطرابات نفسية جراء بث هذه المشاهد على القنوات الفضائية وعبر شبكات التواصل الاجتماعي.
ويتابع: الناس يرون جميع هذه المشاهد، ومن ثم يتعرّضون للأزمات، فتتشكل بداخلهم فكرة أن العالم "لم يعد آمنا لكثرة مشاهد القتل، والمجازر، والدم".
ويلفت الحباشنة إلى أن رؤية مشاهد العنف والرعب تتسبب في "ظهور حالات من الرهاب، والحزن، والتوتر، قد تؤدي إلى تغير المنظومة الفكرية المتصلة بالحياة".
ويرى حباشنة ضرورة "ترشيد هذه التخمة الإعلامية في نقل هذه المشاهد"، ناصحا "بمراعاة الواجب الأخلاقي في عرضها"، لأن أغلب المشاهد عبر اليوتيوب وغيرها من وسائل الإعلام تنقل حقيقة مؤلمة "كثيرا ما تؤذي المتلقي، وعليه يجب انتقاؤها للتخفيف من آثارها السلبية".
ويلفت حباشنة انتباه المواطنين إلى أن الإفراط في مشاهدة مظاهر العنف "يضاعِف لديهم الضغط النفسي"، مؤكدا أنه ليس شرطا أن نتلقى الخبر بالصورة، بل يكفي قراءته أو سماعه للتقيل من آثاره على الذات.
وفي هذا الصدد يقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، الدكتور حمود عليمات، إن المتابعين للأحداث إعلاميا أكثر تأثرًا بآثار هذه الأحداث النفسية من الذين يكونون في قلب الحدث نفسه، ويعود ذلك يعود لأسباب كثيرة، منها أن الذين يعيشون في قلب الحدث يفاجؤون بالحدث عند حدوثه، فلا توجد لديهم صورة ذهنية مسبقة عنه، أو ترقّب للحدث وما يحويه من مشاهد مؤلمة، أو ما يحمله من خوف ومن عواطف ومشاعر وانفعالات معقدة.
أما المشاهدون عن بعد فهم، وفق عليمات، يستقبلون الحدث بكمٍّ كبير من الانطباعات الذهنية والحسية المسبقة، ومن المشاعر والعواطف والانفعالات المخزنة في الذاكرة المباشرة والخفية، ولذلك فهم يتفاعلون مع الحدث بانفعالات أشد حدة، وهو ما يسبب لهم الاضطرابات النفسية والسلوكية".
ويتابع عليمات "الإعلامُ وكيفية عرضه للأحداث هو الذي يصنع الانفعالات القوية ويضخّمها، لأن الذين يشاهدون الأحداث يكونون أصلا مهيئين للتأثر والتفاعل أكثر من غيرهم. فالمشاهدة تثير المشاعر السلبية المتراكمة في الذاكرة الخفية، ولاسيما ما ارتبط بها بمشاهد وتجارب مشابهة سابقة".
وتفسر الدراسة السابقة ذلك التأثير بأن: الدماغ البشري يُخزن الأشياء ويصنفها، ويتعامل معها كمنظومات من صور وأحداث ومشاهد متكاملة، وهو ما يجعل المشهد متكاملا في الدماع. وعند رؤية أحداث مشابهة يُعيد الدماغ إلى الذاكرة تلك الصور المخزنة ويُسقِطها على الأحداث الجارية فتتضخم أمام عيني المشاهدُ وتتضاعف آثارُها على نفسيته وتزداد الانفعالات حدة وشدة.
من جهته يقول الأستاذ محمد المحتسب في قسم الإذاعة والتلفزيون، كلية الإعلام بجامعة اليرموك: تؤكد الدراسات أن مشاهدة العنف عبر وسائل الإعلام، وبالذات من خلال التلفاز، لساعات طويلة، تجعل المتلقي يرى العالم أكثر قتامة من الواقع، لأنه يراه من منظار التراكمات الذهنية المرتبطة بصور العنف، المخزنة في الذاكرة، ولذلك يكون وقُعها على نفسه أعمق وأكثر إيلاما.
لذا يرى المحتسب أن المهنية الإعلامية الملتزمة تتطلب من القائمين على العملية الإعلامية، خصوصا المسؤولين على الوسائل الحديثة التي أصبحت في متناول كل إنسان، وأصبحت تغزو كل البيوت، توخي الحيطة والحذر، وتجنب المغالاة والمبالغة في تقديم هذه المشاهد العنيفة، مؤكدا أن للمهنية والحرفية، والأمانة والمصداقية والموضوعية، الدور الكبير في تحرير الأخبار وإعداد البرامج بما يليق بها من أمانة وموضوعية.
ويعتقد أستاذ علم الجريمة في الجامعة الأردنية، د. عايد وريكات، أن المشاهد التي تنقل عبر وسائل الإعلام تحمل الكثير من التهويل أحيانا، لذا فهي تؤثر في المتلقين أكثر مما تؤثر على المتواجدين في قلب المشهد، والذين يكونون أكثر دراية ومعرفة لتفاصيل الحدث، فيرونه بقدر أكبر من الموضوعية التي كثيرا ما تغيب في المقدمات والعناوين والكلمات المؤثرة التي تصف بها وسائل الإعلام تلك الأحداث.
ويضيف أن المشاهد تؤثر على سلوكات الناس أيضا "سلوكنا نستمده أحيانا من المشاهدة، وما أكثر الناس الذين يقلدون ما يشاهدونه على التلفزيون، فهناك على سبيل المثال مواطنون قاموا بتقليد مشاهد من مسلسلات تركية وغيرها، فارتكبوا جرائم قتل، أو سلب، أو سطو، متأثرين بما شاهدوه في تلك المسلسلات والأفلام".
ويضيف "لا شك أن لهذه المشاهد أثرا خطيرا على الفرد، لقد ثبت تأثيرها، إذ تشير كل الدراسات إلى دور وسائل الاتصال في تشكيل الاتجاهات والسلوكات، فنحن نتعلم الكثير مما نشاهده".
ويبين اختصاصي علم الاجتماع في جامعة البلقاء، الدكتور حسين خزاعي، أن رؤية الصور الناجمة عن العنف والقتل والدمار، وما يرافق هذه الصور المؤثرة من انفعالات، وخاصة صور الدماء، وتقطيع الأشجار، وحرق الممتلكات، ورؤية القتلى، وما يرافقها من صراخ وبكاء، يؤثر على نفسية المشاهدين، ويولد عندهم مشاعر الغضب والتوتر، وما يرافقها من ردود فعل غاضبة وساخطة تجاة مرتكبي هذه الأعمال العنيفة.
ويؤكد خزاعي أن ردود الفعل هذه "طبيعية"، بسبب رفض ارتكاب مثل هذه الأعمال الإجرامية والاعتداءات الوحشية. كما أن العقل الجمعي يرفض مثل هذه السلوكات، لأنها تولد الحزن والغضب والحرمان الذي ينجم بسبب هذه السلوكات. ووفق الدراسة فإن "التعاطف الكبير مع هؤلاء الأبرياء، وعدم القدرة على تقديم العون والمساعدة لهم، بسبب بعد المكان الجغرافي، أو عدم القدرة على الوقوف مع الأبرياء ومساندتهم ودعمهم وتقديم العون لهم، يزيد من حدة الغضب والتوتر، وخاصة عندما يقف الإنسان مكتوف الأيدي ولا يقوى على تقديم المساعدة للمحتاجين، ولاسيما إن كانوا من الأقارب والأهل والجيران وأبناء الوطن".
وعن ذلك يقول خزاعي إن الصور تسبب المعاناة، لأن الإنسان يتذكرها ويسترجعها من العقل العادي، أو العقل الباطن، والذي هو بمثابة أرشيف يخزن العواطف والانفعالات والمشاعر التي تثير آلاما كبيرة عند تذكرها.
ويضيف "يتمتع الإنسان بالذاكرة الحسية، والذاكرة على المدى القصير والذاكرة على المدى الطويل، وهذه تعمل على إثارة الوعي والإدراك عند المخاطر المحيطة، وتعمل الصور على إرسال إشارات يتلقاها الإنسان". فالصور السلبية، وفق الخزاعي، تحرك المشاعر وترسل الإشارات العنيفة، وتولد الغضب والعنف والكبت".
منى أبوصبح
تعليقات
إرسال تعليق