إبراهيم كشت- التخلف شجرةٌ ملعونةٌ ، ضارِبةُ الجذور ، غليظة السّاق ، متشعِّبة الأغصان ، مُتداخلة الفروع ، خَبيثةُ الثِّمار ، غزيرة البذار ، تُخيِّمُ بظلالها الممتدة السوداء على حياة العديد من مجتمعات الأرض ، فتصِبغُ وجودهم بلون تلك الظلال المُعتمة الكئيبة النَّكداء .
إنّها شجرةٌ تنبتُ في تُربة الجهل ، والخُرافة ، ونَبْذِ المنطق ، وضياع المنهج ، وتردّي أساليب التفكير ، وتحجُّر الذهن ، وجمود الأفكار ، وسيطرة الانفعالات ، والنَّظرة الذاتيـّة السطحيّة المحدودة الأُفق .
وجذور تلك الشجرة مُتغلغلةٌ في غياهب القمع ، والاستبداد ، والتَّسلط ، والقهر ، وتحكُّم الكبير بالصغير ، والرئيس بالمرؤوس ، وصاحب العمل بالعامل ، والمدِّرس بالتلميذ ، والموظَّف بالمواطن ، والأب بالأبناء ، والزَّوج بالزَّوجة ، والذّكر بالأُنثى ، وتحكُّم الأعراف والتقاليد بحريّة الفرد ومصيره وآماله ، ومن كلِّ ذلك تَمتصُّ تلك الجذورُ ماءَها ، وغذاءَها ، وسمادَها ، وأسبابَ نمائها ، بل تستمدُّ روحَها وحياتَها وبقاءَها ...
وتكبُرُ السّاقُ الثخينةُ لهذه الشجرة ، مُلتفّةً بلحاءٍ سميكٍ مـن المظاهر الكاذبة ، والتَّعاظُم الهَش ، والاستعراضات المُصطنعة ، والزيف المقنّـع ، والتقليد السخيف ، وفقاقيع الشرف والكرامة المزعومة ، وادعّاء الفضيلة ، وتمثيل الحُذق والفهلوة ، وتضخيم التوافه والنفَّخ فيها ، والكلمـات المُزدانة المُفرغَةِ مـن مضمونها ...
يتألّفُ لُبُّ تلك السّاق ونُخاعُها من نَسيجٍ مُتعفِّنٍ ، قَوامُهُ : اتكاليّة مُتأصِّلة ، وعجزٌ مزمن ، وتقاعسٌ مستمر ، وتبعيّة دائمة ، وكراهيّة مُستشرية ، وتعصّبٌ أعمى ، وولاء للقبيلة والإقليم بدل الولاء للوطن والإنسانية ، وتشبُّثٌ بليد بالعادات البالية ، وقناعةٌ مورثة بالأفكار (المُعلّبة) القديمة ، ورغبة في إبقاء ما كان على ما كان ، ومقاومةٌ مستديمة لكل جديد ، وسلبيّة تُحجِمُ عن المبادرة وتكتفي بردود الأفعال ، وهروب إلـى الماضي ، وخوفٌ طاغٍ ، وأمن مفقود ، وثقة مهزوزة ، وصراعات غير مبرّرة ولا مُجدية ، وقلق مستمر ، وكَبْتٌ دفين ، وتعلُّقٌ بالأوهام ، وأمراضٌ نفسية واجتماعيّة مُستعصية ، وسطحيَّة ضَحلة ، وخداع وكذب مختلف ألوانه ، وانكارٌ للآخر ، وسعيٌ في استغلاله ، واتصالات مشوّشة ، واهتزاز الثقـة بالذات والأحيـاء والاشياء والمستقبل .
أما فروع الشجرة وأغصانها فإنّها تتسامَقُ ، ثُمَّ تتلوّى ، ثـم تَلتفُّ ، ثم تتداخل ، ثم تتشابك وتتفرع في كل اتّجاه ، بامتدادات اخطبوطيّةٍ شرسَةٍ ، تحمِلُ ثمراً نَكِداً جوهرهُ الخيبة ، والهزيمة ، وتعدد الأَزمات وتفاقُمها ، وقلة الإنجاز ، وتردّي الإنتاج ، وتبديد الموارد ، وانتشار الفساد ، وتدنّي مستوى المعيشة ، والعدوان ، والبؤس ، والعذاب النفسيِّ المستمر ، وما تلبث كلُّ ثمرةٍ أن تُلقي ببذارها المُتحفِّزةِ للإنبات ، لتترعرعَ فسائلَ وغراساً جديدة تبشِّر (أو تنذرُ) باستمرار دورة حياة هذه الأشجار ...
تعليقات
إرسال تعليق