ثمة نمط من الثقافة يسود لدى بعضٍ من أفراد مجتمعنا ، يمكن لك أن تسميه (ثقافة تكلّف الهيبة) ، وتتجلى هذه الثقافة في إضفاء المرء وزناً كبيراً على ظهوره بصورة من يملك الهيبة ، بحيث يغدو قناع الهيبة هذا نمطاً مرغوباً من الشخصية ، يسعى الكثيرون لتمثلها وتقمّصها والإطلال على الناس من خلالها ... ! ولعل في ذلك ما يفسِّر العبوس الذي يتّسم به الكثير منا ، والجفاف والجلافة التي تظهر في أحاديثنا وتعاملنا، على نحو اتُخذتْ صورته موضوعاً للتندّر والفكاهة، وإجراء المقارنات الطريفة بسلوك الشعوب الأخرى، الأكثر اتصافاً بالعفوية ولطف الحديث والمعشر ... ! لما تتضمنه المقارنة من مفارقة تستند إليها النكات بطبيعتها .
وأعتقد بأن ثقافة (تكلّف الهيبة) هذه ، ذات علاقة وثيقة بموقفنا من الآخرين، ومدى إحساسنا بالأمان نحوهم ، فبمقدار ما نملك من خوف (قد يكون لا شعورياً أحياناً) من تجاوز من حولنا لحدودهم في أثناء تعاملهم معنا ، وخشية من أن يتدخلوا في شؤوننا ، أو يتجرأوا علينا ، نسعى للتحوصل بتلك الهيبة ، واصطناع الاستعلاء ، والإيحاء بالأهمية . حتى أن البعض منا يتبع فنوناً في أساليب إلقاء السلام أو حجبه أو الرد عليه ، فربما اكتفى برفع حاجبيه ، أو التظاهر بعدم الالتفات للشخص المقابل ، أو رسم ابتسامة تعمّدَ أن يَفهم منها من يتلقاها أنها مصطنعة ، فهو لا يستحق أكثر منها ! والمسألة هنا تشبه حال الموظف العام الذي يتعمد الصلافة والجفاء والتجهّم في وجه المواطن الذي يراجعه في أمر ما ، تحسّباً من أن يكثر ذلك المراجع من طلباته ، أو يستغرق وقتاً طويلاً ، أو يدخل معه في جدال ، ولكي يظل ذلك المواطن (طالبُ الخدمة) متوجِّساً حذِراً ، فلا يشعر في لحظة أنه يطلب حقاً له .
ويدخل في نطاق هذه الهيبة المصطنعة شكل من السلوك ربما يَحتاجُ لمن ينتبه إليه ، ويتمثل فيمن تجدهُ يرحب بك ، ويكيل لك عبارات التأهيل والتسهيل ، بل يقسم عليك بأن يستضيفك على وليمة ، لكنه في حديثه وتصرفه هذا كله يبقى متجهماً عابساً ، جاداً وجافّاً، فالهيبة مطلوبة لديه في كل حال ! وكثيراً ما تؤدي الهيبة المصطنعة الى عدم الانخراط في نشاطات الحياة التي تتعدى العمل والزيارات الواجبة والولائم ، كما تجعل صاحبها غير قادر على ممارسة الهوايات والترفيه ، اللهم إلا إذا تمَّ ذلك بشكل لا يناسب فيه المقال المقام .. !
ولعل مما يلاحظ على أفراد المجتمعات المتخلفة بوجه عام ، أنهم يلجأون لمحاولة تحقيق قيمتهم الذاتية والاجتماعية، وإشعار الناس بها، إما من خلال وسائل مصطنعة كما في تكلف الهيبة، أو من خلال وسائل خارجية كما في الاستعراض والتظاهر. ومن عجب أن كثيراً من المجتمعات الأخرى تتعامل بعفوية ، وابتسامة ، ومرح ، ووجه طليق، وعبارات لطيفة ، ومع ذلك لا نستطيع أن نصف أفرادها بأنهم فاقدو الهيبة ، ولا أن ندّعي أن تلك العفوية والطلاقة واللطافة تسبب أي تهديد لأمنهم النفسي الداخلي ، أو تؤدي لتعدي الناس عليهم .
ابراهيم كشت
تعليقات
إرسال تعليق