كانت جميلة تشخص ببصرها وهي تطل على أرض وطنها من بعيد, تستعيد ذكريات ما كان ويكون, فهي لا تزال تتذكر ما كان يجري في حي القصبة بالأمس, حين كان الاستعمار الفرنسي يقبض بكلتا يديه على خناق الشعب الجزائري, ويفرض عليه العبودية لتحقيق رغبة الطغاة في أن تصبح الجزائر جزءاً من فرنسا!
وإنها لتذكر كيف لم يمتثل الشعب المناضل لهذا الاستعباد, وكيف أعلنت جبهة التحرير ثورة الجزائر في الأول من نوفمبر 1945. ففي ذلك اليوم وحده شن الثوار ثلاثين هجوماً في وقت واحد في جميع أنحاء البلاد على أهداف عسكرية فرنسية.
وإن جميلة لتذكر ذلك اليوم الآخر الذي ابتليت فيه الجزائر بوصول القائد الإرهابي الجنرال ماسو على رأس الفرقة العاشرة من قوات المظلات في يناير 1957. لقد كان أول ما فعله هو محاصرة حي القصبة وعزله تماماً عن بقية المدينة بالأسلاك الشائكة. فمنذ تلك اللحظة تساقط الشهداء والمدنيون تحت وطأة أبشع وسائل القمع والإرهاب. وكانت أوامر ماسو لجنوده: (لا تفرقوا بين رجال ونساء وأطفال. اقتلوا كل من تشتبهون فيه, فلا رحمة ولا شفقة أبداً).
ولا تستطيع جميلة أن تنسى اليوم الثاني من فبراير 1957. لقد كانت في دارها بحي القصبة, حين اقتحم رجال المظلات الدار, وارتفعت صيحات رجال حملة التفتيش وهم يضربون الجميع بكعوب البنادق: (أين القنابل? أين تخبئون السلاح?). وجمع جنود المظلات كل أفراد الأسرة, وبدأت عمليات التعذيب داخل البيت بالطفل هادي شقيقها الصغير, فملأوا إناء كبيراً داخل الحمام بالماء وراحوا يغطسون رأس الطفل فيه. وكلما أشرف على الموت أخرجوه ليعيدوه إلى الماء من جديد حتى يفقد وعيه. وبالرغم من عنف الاستجواب عجز المعتدون عن العثور على شيء, ولم يكن أمامهم إلا أن ينسحبوا من الدار بعد ان اوسعوا الجميع ضرباً.
يوم آخر لا يمكن أن تنساه جميلة. كان ذلك ذات صباح من أبريل 1957. كانت تسير في الطريق حين رأت جنود المظلات يتحرشون بالمارة. وأسرعت الخطى كي تجتنبهم إذ كانت تحمل رسالة الى يوسف سعدي قائد جبهة التحرير في العاصمة, وتبعها المظليون وأطلقوا عليها الرصاص ومرت الرصاصة من الظهر ونفذت من الصدر.
أحاط ضباط المظلات بالجريحة داخل المستشفى العسكري يريدون ان ينتزعوا منها اعترافاً بمقر القيادة ومخبأ يوسف السعدي. استخدموا معها أبشع أنواع التعذيب. وراحوا يضربونها ويجذبونها من فراش المرض ويلقون بها على الأرض ويخبطون رأسها بعنف وهم يصرخون: (تكلمي. أين سعدي?) وبالرغم من ازدياد التعذيب عنفاً فإن الفتاة لم تستسلم. راحت تقاوم ولا تخرج من بين شفتيها إلا كلمات: (لن تصلوا اليه. لن تمتد أيديكم نحوه).
أخذ المجرمون يبحثون لجميلة عن تهم يقدمونها بها أمام المحكمة العسكرية. وبدأوا بالتحقيق معها على أساس تهم بأنها هي وزميلاتها وضعن القنابل التي انفجرت في (الميلك بار) ومقهى الكافيتريا حيث قتل عدد من الجنود الفرنسيين. وكلما اشتطوا في عمليات التعذيب لتعترف, كانت إجاباتها باستمرار: (أنا جزائرية. سأكافح من أجل بلدي, سأموت من أجل شعبي). ونقلها المحققون إلى مكان آخر معصوبة العينين. وهناك جردوها من ملابسها أمام الجنود وأوصلوا التيار الكهربائي بكل طرف من جسدها حتى اعضائها التناسلية. ولكنهم فشلوا في إرغامها على الاعتراف بما يريدون. ولم يكن أمامهم إلا أن يكتبوا اعترافات على لسانها من خيالاتهم, المهم عندهم أن تثبت التهمة أمام المحكمة العسكرية?
وإن جميلة لتذكر جيداً أنها حين نقلوها إلى السجن المدني بجهود محاميها الفرنسي, كتبت إلى قاضي المحكمة العسكرية تطلب أن يأمر طبيب السجن بفحصها ومعاينة آثار التعذيب الوحشي على جسدها. وتولت الدكتورة جانين بلخوجة الكشف عليها وسجلت كل شيء في تقريرها. قالت الطبيبة (بالكشف على جميلة, وجدت جروحاً ينزف منها الصديد أسفل الصدر والكتفين, مع شلل بالذراع اليسري, وبقع داكنة حول الأنف والشفتين والأذنين, وفي منطقة الصدر وفي الجزء الأسفل من جسدها فوق الساقين, وكلها آثار حروق شديدة).
ظلت جميلة صابرة لا تهن ولا تستسلم ولا تعترف, حتى تحولت قضية تعذيبها التي كشفها المحامي الفرنسي إلى فضيحة عالمية, بعد أن تلقت صحيفة (لورور) الفرنسية نسخة من التقرير. ووصفت الجريدة همجية الضباط والجنود الفرنسيين في معاملتهم لجميلة كواحدة من نساء الجزائر اللائي يقاومن الاحتلال. ولفتت محاكمتها أنظار الرأي العام العالمي كله, لا إلى قضية جميلة وحدها, بل إلى قضية الشعب الجزائري كله. وعندما مثلت جميلة أمام المحكمة الهزلية الفرنسية واجهت القاضي وهيئة المحكمة وممثلي الادعاء والضباط والمظليين صارخة: (إن الفرنسي الذي قتل بقنبلته خمسين جزائرياً في حي القصبة لم ينل أية عقوبة, بينما تحاكمون فتيات وطنيات بتهم ملفقة وتذيقونهم ألوان العذاب). كانت المحاكمة تجري في جو رهيب. فكل من توقعوا أن تأتي شهادته مؤيدة لبراءة المتهمة, تخلصوا منه بالقتل, إذ تدهسه سيارة وهو في الطريق قبل أن يصل إلى قاعة المحكمة!
حتى المحامي الفرنسي جاك فيرجيس الذي وقف يدافع عن جميلة متطوعاً, لم يطق صراخ جنود المظلات والمستوطنين وهم يهتفون فيه: (إلى الموت. إلى الموت). واجه المحامي هيئة المحكمة وروادها صارخاً: (ما هذا? هل نواجه محكمة عسكرية? أم عصابة من القتلة والسفاحين?).
وكانت فرصة لرئيس المحكمة أن يصرخ فيه: (اخرج من القاعة فوراً إنك ممنوع من إلقاء مرافعتك).
ولم تجد جميلة إلا أن تهتف في وجه هيئة المحكمة: (لكنني أعلم أنكم ستحكمون عليْ بالإعدام, لأن الذين تخدمونهم يتحرقون شوقاً إلى رؤية الدماء. ولكن إذا كنتم قد عذبتموني بأقسى أنواع التعذيب, وقتلتم إخوتي وأهلي, فلا تنسوا أنكم تقتلون الحرية التي تتشدقون بها).
حاول جنود المظلات بأساليبهم الوحشية أن يثبتوا الاعترافات التي ادعوها ضدها. فأحضروا إحدى زميلات جميلة من السجن بعد أن سببوا لها الجنون. فلما مثلت أمام المحكمة راحت ترقص وتغني في نظرات زائغة وهي تحرك يدها في شبه دائرية كأنها تحمل مدفعاً رشاشا. وحين قال لها رئيس المحكمة: (ألم تعترفي بأن جميلة هي التي ألقت القنابل?) كان ردها هو الصراخ (تك.. تك.. تك). ونظر رئيس المحكمة إلى القاعة وهو يبتسم في انتصار: (أترون? إنها تؤيد الاتهام!)
في 15 يوليو 1957 صدر الحكم بإعدام جميلة بوحيرد. ولكن جميلة كانت أقوى من جلاديها ومن قضاتها. واستنكرت شعوب العالم هذه الجريمة البشعة, فلم يتم تنفيذ الإعدام. بعد أن اضطر حكام فرنسا إلى النزول على رغبة الشعب حين قال: (نعم) لاستقلال الجزائر.
وبقيت جميلة حية, وانتصرت الجزائر على المستعمرين.
تعليقات
إرسال تعليق