كانت قوة شخصيتها وقدرتها على السيطرة سبباً في عزل سبعة عشر رجلاً من أعلى مناصب الدولة, بعد أن أصبحت الحاكم الفعلي للبلاد, فيما كان السلطان صبياً.
عندما كان السلطان أحمد الأول ـ صاحب الجامع الأزرق باستانبول ـ يحتضر لم تكن السلطانة (قوسيم) تستطيع أن تتصور كيف يمكن لولده الأكبر (عثمان) من زوجته الأولى (ماخفيروز) أن يصير سلطانا. ولم يكن صغر سن عثمان ـ الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة ـ هو ما يشغل بال السلطانة خوفا على السلطنة, فقد كانت تدرك ألاعيب ودسائس رجال السراي, وما يمكن أن يوحوا به إلى عثمان إذا تولى السلطنة من قتل إخوته ـ كما هي عادة السلاطين العثمانيين ـ فور أن ينجب أبناء له حتى يضمن أن تكون الولاية لولده من بعده. وإذ كان للسلطانة قوسيم عدة أبناء آخرين من السلطان أحمد تخشى عليهم, فلم يكن أمامها إلا أن تتخذ موقفا حاسما تقنع به السلطان المحتضر. فراحت تناور بشكل يرمي إلى استبعاد ولده الأكبر لحساب عمه مصطفى. فهي تدرك أن هذا الأخير ليس له أبناء علاوة على أنه مختل عقليا, بما لايتيح له أن يتمكن من الحكم طويلا, ومع استبعاد عثمان فسوف يتسنى لأحد أبنائها ارتقاء العرش العثماني.
حققت السلطانة هدفها الأول عندما تولى مصطفى السلطنة بالفعل بعد رحيل السلطان أحمد. وإذا كان هذا هو ما عملت له قوسيم وانتظرت أن يتضح عجزه عن الحكم من الناحية العملية فينحى لصالح أكبر أبنائها, إلا أن رجال القصر كانوا أسرع منها حين جرى خلع السلطان مصطفى الأول بعد شهور ثلاثة من توليته بتحريض من (أغاسي الحريم) في القصر. وكان هذا الأغاسي نصير العثمان, واستطاع أن يعمل بسرعة للمناداة بعثمان أكبر أبناء السلطان أحمد ليتولى السلطنة باسم عثمان الثاني.
على الرغم من صغر سن عثمان, فإنه يتكشف عن رجل ذي شخصية قوية عازم على تولي مسئوليات السلطنة وكسب الاحترام لها. وما أسرع ما تخلص من كبير حريم القصر وفرض العزلة على السلطانة الوالدة (قوسيم). ويجري السلطان الجديد تغييرات كثيرة في نظام الحكم فيعين صدرا أعظم جديدا ومسئولين كبارا آخرين, ثم يعمل على إجراء إصلاحات يقيد من خلالها سلطة العلماء وامتيازاتهم المادية, ويفكر في (تتريك) الإدارة والجيش باللجوء في ذلك إلى عناصر أناضولية. وتجد السلطانة الوالدة فرصتها لاستعادة نفوذها باستثارة معارضي السلطان ممن خسروا مواقعهم وخاصة العسكريين من الانكشارية, الذين يتمردون مطالبين بتنحية مستشاري السلطان الرئيسيين. ويؤدي رفض السلطان إلى تفجير رد فعل عنيف من جانب الانكشارية بتحريض من السلطانة الوالدة, فهم يتسللون إلى القصر ويفرجون عن السلطان السابق مصطفى وينادون به سلطانا من جديد. وما تكاد تمضي فترة قصيرة حتى تكون قوسيم قد لعبت دورا مؤثرا ليتم القبض على عثمان بعد خلعه ثم إعدامه في نهاية الأمر!
ويفرض الانكشارية إرادتهم في تعيين المسئولين الجدد, وينشرون الفوضى في العاصمة. ولكن جنون السلطان مصطفى يؤدي إلى تشجيع تحركات قوسيم التي تتوصل إلى تعيين صدر أعظم من أنصارها, يزيل تدريجيا مدبري الانقلاب, ليتم بعد ذلك خلع السلطان مصطفى للمرة الثانية, والمناداة بأكبر أبناء قوسيم البالغ من العمر أحد عشر عاما سلطانا تحت اسم (مراد الرابع).
اطمأنت قوسيم إلى انتقال الأمر إلى ابنها الصغير. ومنذ تلك اللحظة استقرت السلطة بين يديها. وبدأت بما تتمتع به من شخصية مسيطرة في توجيه شئون الحكم بشكل فعلي طوال عشر سنوات, معتمدة على رجال السراي الذين تغيرهم على هواها وبحسب الظروف. فقد راحت قوسيم تعين وتعزل من يتولون منصب الصدر الأعظم حتى أنه من بين ثمانية منهم هلك ثلاثة قتلى, كما تغير تسعة في منصب (الباش دفتر دار) المسئول المالي للدولة. وكانت قوسيم ـ نظرا لخطورة هذين المنصبين ـ تحاول من خلال قرارات العزل والتعيين بل والقتل باسم السلطان الصبي, إيجاد حلول للمصاعب السياسية والمشكلات المالية التي كانت قد استفحلت أواخر حكم السلطان المقتول عثمان, وما أدت إليه من انتصار الميول الأنانية والنزاعات المتعددة وردود الأفعال الفئوية في صفوف الجيش وفي صفوف الإدارة المدنية على السواء.
وفي الواقع أن السلطانة الوالدة كان لابد لها من أن تلجأ إلى هذا العنف في ظل هذه الظروف. فحين كان السلطان مراد لايكاد يستكمل العام الثاني من حكمه, قامت تمردات في القرم والأناضول ومصر واليمن ولبنان, مما أدى إلى زعزعة النظام السياسي وضرورة إرسال القوات. إلى مختلف الجبهات. ولم يكن من المعقول أن تترك قوسيم الأمور لتستفحل بين الأشخاص الذين يمكنهم التحرك فينهمكون في نزاعات تنافسية سعيا إلى أطماع مادية لامستقبل لها, وهي ترى كل مسئول كبير يسعى إلى أن يختلق لنفسه زمرة بهدف تكوين جماعة ضغط أو قوة مقاومة. وزاد الطين بلة أن شاه إيران شن هجوما على العراق واستولى على بغداد وجزء من كردستان.
ولم تستطع قوسيم مواجهة كل هذه المواقف إلا باللجوء إلى العنف والضرب بيد من حديد على من يتسببون في التمرد, ولايستثني القمع عددا من أفراد أسرة السلطان نفسه. ولم يكن مراد الرابع بعيدا عن كل هذه الأحداث التي تواجهها أمه السلطانة الوالدة باسمه. وحين اشتد عوده وتجاوز العشرين عاما, وبدعم من الصدر الأعظم الجديد محمد باشا تابانياس, تمت استعادة النظام وهيبة السلطنة. وحين أدى حريق ضخم إلى تدمير أربعة أخماس استانبول واستثارة موجة من السخط تعبر عن نفسها بشكل خاص في المقاهي, تشجع قوسيم ولدها على إصدار فرمان بحظر استخدام القهوة والتبغ وإغلاق المقاهي في كل أنحاء الإمبراطورية. وبعد عام واحد يصدر أمرا بإغلاق الحانات وحظر تناول النبيذ. وكانت هذه المحظورات موضع تطبيق صارم تسهر عليه السلطانة الوالدة شخصيا من خلال أنصارها. ومنذ ذلك الوقت يظهر مراد الرابع بوصفه مستعيداً للفضائل الدينية والأخلاقية, وخاصة بعد أن أصدر عددا آخر من الأحكام الإدارية والمالية, واستطاع أن يسترد بغداد من الإسرائيليين. وهكذا تمكن بمساندة السلطانة الوالدة من استعادة هيبة الدولة.
كل ذلك الاستقرار لم يستمر طويلا بعد أن مات مراد الرابع وهو في الثامنة والعشرين, وتولى السلطنة من بعده أخوه إبراهيم الأول. وبالرغم من كل محاولات أمه قوسيم لمساندته فإنه كان مريضا عاجزا أكثر انشغالا بشهواته الشخصية من ممارسة شئون الحكم, التي كان لابد أن تعود إلى يدي السلطانة الوالدة من جديد. وإذا كانت الأعوام الأولى لعهده قد مرت دون كثير من المصاعب أو الصدمات بفضل الإدارة الحكيمة, فإن دسائس حريم القصر وأطماع جينجي خوجا مستشار السلطان أدت إلى عزل الصدر الأعظم الذي كان ذا حظوة عند السلطانة.
وكان لابد لقوسيم أن تواجه مرة أخرى الطامعين الجدد على منصب الصدر الأعظم, في وقت كان السلطان إبراهيم يقضي كل وقته بين شهوات الحريم. وتذهب كل نصائح قوسيم لولدها سدى وهي ترى بعينيها كيف تضيع الإمبراطورية. وتنشب القلاقل في الولايات ويتكاثر المتآمرون لينتهي الأمر بخلع السلطان إبراهيم, دون أن يدري أحد من كان وراء تمرد الانكشارية الذين خلعوه وقتلوه.
ويتولى السلطنة محمد الرابع ابن إبراهيم وحفيد قوسيم, وهو بعد في السادسة من العمر. وتحاول قوسيم مواصلة ممارستها للسلطة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه, ولكن الأمر يكون قد أفلت من يدها. فقد راحت (خديجة طورخان) أم حفيدها تصارع الجدة النفوذ, وتقنع ولدها بأن جدته كانت وراء مصرع أبيه, ويكون ما لابد أن يكون. فمع تصارع المرأتين تنتصر خديجة وتقهر قوسيم, وتسلط أم السلطان على جدته من يقتلها خنقا, لتريح وتستريح.
تعليقات
إرسال تعليق