عاش حياته الماجنة خاضعاً لجواري قصره وأغواته وغلمانه. ومنذ ولي على مصر في 24 نوفمبر 1848, راح يحيط نفسه ببطانة من الجراكسة والأرناؤود, وجيش جرار من القيان الحسان, يتبعهن جيش آخر من العبيد والخصيان. واتخذ من جواريه التركيات والروميات مستشارات لا يبرم أمراً من أمور الدولة إلا بإشارتهن وإرشادهن, يقرب من يرضين عنه, ويبعد من يغضبن عليه.
ولم يكن كل ذلك الذي يفعله والي مصر عباس بن طوسون وحفيد محمد علي, ليرضي عمته الأميرة نازلي هانم ولا عمه سعيد, ولكنهما ما كانا يستطيعان مناقشته فيما يجري في القصر, فهما يصغرانه ببضع سنين إذ أنجبهما محمد علي باشا بعد سنوات كثيرة من مجيء ولديه إبراهيم باشا ولي عهده وطوسون باشا قائد حملته إلى الحجاز.
وذات يوم جاءته إحدى معشوقاته الروميات تشكو إليه أن عمته الأميرة نازلي قد عنفتها وأهانتها واتهمتها بأنها تتجسس عليها. وإذا استشعرت الجارية أن سيدها قد أخذ به الغضب, راحت تستثيره بأنها كانت تسترق السمع بالمصادفة حين كانت عمته تتآمر مع أخيها سعيد باعتباره أحق بالولاية من سيدها ومولاها.
واستشاط عباس غضباً ونهض ثائراً ليصدر أمره إلى (كتخداري مصر) بأن يلزم عمه سعيد بالبقاء في سراية القبة بالإسكندرية, وأن يأمر بعدم مغادرة عمته نازلي لقصرها حتى يأتيها أمره بدعوى تآمرها والارتياب في علاقاتها الغرامية.
وإذا كان سعيد قد رضي بتحديد إقامته, فإن نازلي التي تدرك مدى خبل ابن أخيها ولوثة عقله, استطاعت أن تفر بنفسها وحياتها إلى الأستانة مع عدد من افراد الأسرة الذين أعلن عباس عليهم حرباً شعواء بدعوى عدم خضوعهم له وتآمرهم عليه.
قبل أن يصبح عباس ولي الأمر, كان يتولى منصب الكتخدائية في عهد جده محمد علي حيث اشتهر بقسوة القلب والميل إلى إرهاق الرعية, مما حمل جده على توجيه اللوم إليه أكثر من مرة. وحين ولي الأمر إبراهيم باشا في حياة أبيه, ضاق ذرعاً بقسوته واضطره إلى الهجرة إلى الحجاز حيث بقي هناك إلى أن توفي إبراهيم, فعاد عباس إلى مصر ليتولى الحكم باعتباره أكبر أبناء الأسرة سناً وأحقهم بولاية العهد.
كانت باكورة أعمال الباشا الجديد استبعاد مستشاري جده وعمه وطنيين وأجانب, ثم ضرب كل ما حققه جده من إنجازات, ولجأ إلى محاربة حركة التعليم وأغلق معظم المدارس. وقبضت حكومته يدها عن مساعدة مدرسي الطب والمهندسخانة خشية أن يزداد عدد المثقفين من أبناء الشعب, كما عمد إلى المصانع والمعامل فأغلق أبوابها بحجة الاقتصاد, وقضى على ما كان للجيش من صبغة وطنية بعد أن أحاط نفسه بحراسة الألبانيين والمماليك.
والواقع أن عباس كان والياً ضيق الأفق مختل العقل, يقضي معظم أيامه بين كلابه وجياده. وكان يسلب أراضي الفلاحين ويسمح لمموليه العديدين وبينهم نوبار باشا بأن يجمعوا له الأموال من أي طريق. ولم يكن لديه من حرج في اختلاط أموال الوالي الخصوصية بأموال الخزانة العامة فيبعثرها على رجاله من الأرمن والخدم والحشم والعبيد والغلمان والشماشرجية.
ولعل من أطرف ما سجله التاريخ من أعراض لوثة الباشا حكاية الشعلاوي والأحمراني التي كانت سبباً في إغلاق مدرسة الطب البيطري. فذات يوم أصدر إرادته السنية مكتوبة بالخط الهمايوني بمانصه: (إن المتخرجين من مدرسة الطب البيطري والمعينين في تفاتيش الحكومة لإصلاح جنس الحيوانات, قد تسببوا في خسارات عظيمة وتلفيات جسيمة للحيوانات المعدة تحت أمانتهم. وبالزيادة على ذلك تسببوا في موت الجوادين الكريمين الشعلاوي والأحمراني الواردين من طرف حضره شريف مكة المبجل لابننا الأكبر, وبناء عليه ثبت أن كل التعب والمشقة والمصارف الوافرة المصروفة لهؤلاء البيطريين ذهبت هباء. فاستخدامهم اليوم مضر بالجهتين, مضر بالخزينة بالنسبة للأجور التي يتناولونها, ومضر بالحيوانات في التفاتيش بالنسبة لعدم مبالاتهم, لهذا أصدرنا أمرنا بإبطال وإلغاء مدرسة الطب البيطري وبنزع رتب ونياشين الحكماء البيطريين المستخدمين في الحكومة كبيراً كان أو صغيراً, وطردهم من جميع الوظائف الأميرية).
أثناء ولاية عباس باشا للحكم الذي ظل فيه خمس سنوات ونصف السنة, ظهر ما في أخلاقه الرجعية من شذوذ, فإلى جانب قسوة القلب أضيفت صفات أخرى كسوء الظن بالناس والتطير بالحوادث والرغبة في العزلة. وطالما أمر بجلد نسائه وإغراقهن في النيل. وراح يختار أبعد الجهات عن العمران وأوحشها لبناء قصوره. فلم يكتف بسراي الخرنفش وسراي الحلمية وسراي العباسية, بل أنشأ قصراً آخر في بنها على النيل بعيداً عن المدينة وهو القصر الذي قتل فيه.
وتعزو مدام أولمب في كتابها (كشف الستار عن أسرار مصر) مقتل الوالي إلى مساعي الأميرة نازلي هانم, عمته الهاربة في الأستانة, بعد أن بلغها من قصر السلطان أن عباس يسعى لإزاحة عمه سعيد عن الولاية لتكون من بعده لولده إبراهيم إلهامي. فأنفذت مملوكين من مماليكها كانا على جانب عظيم من الجمال إلى القاهرة بحيث يغريان وكيل الباشا على شرائهما, وهبط المملوكان إلى مصر ونزلا إلى سوق الرقيق. ورآهما الوكيل وأتباعه وأحضروهما إلى قصر مولاه في بنها. فلما رآهما عباس أعجب بهما وعهد إليهما بحراسته ليلاً. ولبث المملوكان يستجمعان قوتهما إلى أن جاء دور قيامهما بالحراسة.
وبينما كان أحد الغلامين لا يزال في غرفة نوم الباشا تلبية لرغبته, إذ بالثاني يقتحم الغرفة ويشتركان معاً في قتل الوالي وهو على فراشه, دون أن يتركا له فرصة للاستغاثة أو الدفاع عن نفسه. ونزل الغلامان إلى الاسطبلات وتظاهرا بطلب جوادين لقضاء حاجة لمولاهما. ولم يشك السائس في الأمر وسلمهما الجوادين, وفرا إلى القاهرة ومنها إلى الأستانة, حيث نفحتهما الأميرة نازلي مكافأة سخية لاغتيالهما عباس رداً على تشويهه لسمعتها واتهامه لها بالسقوط في علاقات مريبة.
تعليقات
إرسال تعليق