إبراهيم كشت- قفزَ الثعلبُ الى الأعلى مرّات عدّة ، لكنه خابَ في التقاط قُطف العنب المُتدلّي ، وحين يئس من المحاولة ، نظر الى حبّات العنب العنقودية المتلألئة بإزدراء ، وقال : إنّه مجرد قطف من الحصرم الحامض ، والواضح أنه كان لدى الثعلب (وفقاً لهذه القصة الشهيرة التي درجت مثلاً على الألسن) دافع قوي نحو التقاط قطف العنب لإشباع حاجاته ورغباته ، غير أن المعيقات المتمثّلة ـ على نحو خاص ـ بارتفاع القُطف أكثر من قدرة صاحبنا على القفز ، قد حالت دون تحقق الدافع لديه ، ودون اشباع حاجاته ، مما أورثه الإحباط ، بما فيه من ألم وضيق واحساس بالمهانة ، ومشاعر عدوانية ، وبما فيه من تأثير على التوازن ، فأخذت استجابته صورة التقليل من شأن ما لم يصل إليه ، سعياً نحو استعادة التوازن النفسي الذي تخلخل لديه .
الاستجابة للإحباط من خلال تقليل شأن الآخرين
تُرى هل يمنحُنا التّقليل من شأن ما لم نتمكن من بلوغه شعوراً مريحاً ؟ وهل يعيد ذلك الى نفوسنا التوازن الذي اختل نتيجة ما مَسَّنا من إحباط لعدم قدرتنا على الوصول إلى هدف أو تحقيق رغبة ؟ وهل (يلطِّفُ) من أثر التوتر الناجم عن الفشل ، أن نطعن بمن نجحوا ، أو نهزء بهم ، أو نشوّه صورتهم ، أو نقلل من قيمة ما حققوه ووصلوا إليه .
هذا ما يقوله علماء النفس ـ على أي حال ـ حين يتحدثون عن « التقليل من شأن الآخرين « كأسلوب قد يلجأ المرء إليه استجابة لما لَحِقَهُ من إحباط نتيجة عدم قدرته على تحقيق دافع لديه ، ويلجأ الإنسان الى هذا الأسلوب عادة حين يصاب بصدمة نتيجة لفشله في مجال ما ، فيبدأ بتقصّي أخطاء الذين نجحوا حيث فشل ، بل وفي اختلاق أخطاء لهم غير موجودة أصلاً ، والبحث عما يقلل من حجم نجاحهم ، وتفسير ذلك النجاح بأسباب تحطُّ من قدره .
انتشار أسلوب التقليل من شأن الآخرين
ليس عليك لتكتشف مقدار انتشار هذا الأسلوب في الاستجابة للإحباط في المجتمع ، إلاّ أن تراقب حديث المجالس والصالونات ، والأحاديث المتبادلة على الهواتف الثابتة والنقّالة ، حيث لا يكاد يأتي ذِكرُ شخصٍ نجح في مشاريعه الاقتصادية بجهده وكدّه ، إلا ويبدأ التلميح الى الوسائل غير المشروعة التي اكتسب بها أمواله ، أو الى الحظّ الذي أتاح له التفوّق ، وإذا ذُكِـرَ شخصٌ آخـر بلـغ بذكائه واجتهاده مرتبةً عالية في مجال ما ، بدأوا بتذكيرك بما كان عليه حالُهُ أيام العوز والفقر (كأنّ ذلك يعيبه !) ، أو عَزَوا نجاحه إلى أسباب خارجية لا يد له فيها ، كالدَّعم الذي لاقاهُ ، أو الطالع الذي واتاهُ .
التقليل من شأن الأمم والحضارات
ولا يقِّللُ هؤلاء من شأن الآخر كفردٍ فحسب ، بل يجري نَهجُهم هذا على نظرتهم الى المجتمعات أيضاً ، فإذا تحدثتَ عـن حضارة أمة ما ، ردّوا عليك بالقول أن اولئك قد سرقوا الحضارة عنّا ، وإذا تحدثت عن تقدم علمي لمجتمع ما ، قالوا لك أنّه يوازيه انحلال خُلقي شنيع ، وإذا ذكرتَ أُمّة متفوقة اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً ، بادروك بالقول : لكنَّ شعب تلك الأمة كلهم أغبياء !
البحث عن هفوات الناجحين وتضخيمها
وربما يندرجُ تحت موضوع التقليل من شأن الآخرين من منطلق الأسباب النفسية ذاتها ، ذلك التَّلذذ في البحث عن هفوات الناجحين وزلاّتهم وأخطائهم ، بل وتضخيم تلك الزَّلاّت لتأخذ طابع الخبر المُثير ، وصورة الشائعة التي تصلح مادة للتناقل والتداول ، فهل يمكن أن نضيف إلى العوامل التي يذكرهـا علماء الإجتماع والتي تؤدي لخلـق الشائعات وإطلاقها وتصديقها وترويجها عاملاً آخر هو الإستجابة لشتى الإحباطات الناجمة عن الفشل ، وعدم تحقيق الرغبات والحاجات ، أو الإعتقاد بعدم القدرة على تحقيقها ؟
تبرير العدوان تجاه الآخرين
ويذكرنا موضوع التقليل من شأن الآخرين كشكل من أشكال الإستجابة للأحباط ، بمفهوم آخر يتحدثُ عنه الرّاسخون في علم النفس الإجتماعي ويسمونه بـ (التّبخيس) ، ويتمثلُ التّبخيسُ في التقليل من وزن وقيمة الناس ، لتبرير العدوان تجاههم ، فَرَبُّ الأسرة المُستبد يبرر تسلّطه وعدوانه نحـو أفراد أسرته بالحَطِّ من قيمتهم ، وادِّعاء عدم نضوجهم ، وعدم معرفتهم بمصلحتهم ، والمدير الظالم يبرر قراراته بحق موظفيه بالنظر إليهم على أنهم جاهلون ، والزعم بأنهم كُسالى لا يَليقُ بهم التعامل الإنساني وهكذا .
وبعد :
فعلاً أن لعلم النفس قدرةً عظيمة على الغَوْصِ في العُمق ، وتفسير ظواهرَ درجْنا أن نتحاشى مجرّد الانتباه لوجودها .
تعليقات
إرسال تعليق